آسيا العتروس
المواطن السوداني يعيش ومنذ اندلاع الحرب المجنونة رحلة كفاح يومي، من أجل البقاء على قيد الحياة وعدم الانضمام إلى قائمة الوفيات، التي تتمدد كل يوم أكثر، فيما تقف كل الأطراف المحلية والإقليمية والدولية عاجزة عن كبح جماح المقتتلين وإيقاف النزيف في حرب عبثية يصح وصفها بحرب داحس والغبراء الجاهلية، في زمن العولمة والاستقطاب الخفي أو المفتوح لأطراف النزاع …
مريع إلى درجة لا تصدق ما يحدث على أرض السودان، أو بالأحرى شمال السودان بعد تقسيم هذا البلد إلى سودان شمالي مسلم وسودان جنوبي مسيحي، مسلسل الاقتتال اليومي، والإصرار على حرق الأخضر واليابس، وفتح أبواب الجحيم على مصراعيه أمام السودانيين، يعكس تعطشا لا حدود له لإراقة الدم وإزهاق الأرواح ونسف كل شيء على الأرض… وقناعتنا أنه لو توفر السلاح النووي لطرفي الصراع المستمر في السودان، لما ترددا في استعماله حتى وإن كانت النتيجة سحق كل من على وجه الأرض، وليس شطب السودان وشعبه من الخريطة… بعد نحو ثلاثة أشهر على اندلاع حرب الجنرالين البرهان ودقلو، الحليفين السابقين اللذين خدما نظام البشير حتى ارتويا، ثم انقلبا عليه ليتزعما الثورة في السودان، قبل أن يتحولا إلى عدوين لدودين ويتخذان من السودان وأهله رهينة لطموحات وتطلعات الجنرالين في الهيمنة على المشهد.. سقطت الهدنة وراء الهدنة وتعثرت كل جهود الوساطة، من الجهود السعودية الأمريكية إلى الجهود الإفريقية وغيرهما، وكلما لاح بصيص أمل إلا وانهار، فيما ظلت حصيلة الضحايا والخسائر المادية والبشرية في ارتفاع مذهل… جرائم القتل اليومي والاغتصاب باتت العنوان اليومي للمشهد في السودان، هذا البلد الذي منحته الطبيعة كل ما يمكن أن يجعله جنة على وجه الأرض، من مياه وأراض زراعية وثروة حيوانية، يمكن أن تحقق الأمن الغذائي للسودان بشماله وجنوبه، فضلا عن جبال الذهب واليورانيوم وآبار النفط التي تذهب عائداتها لا إلى إطعام الأفواه الجائعة، وإيواء المشردين، وتأمين الكرامة للسواد الأعظم من السودانيين، ولكن وهنا المأساة التي لا تجد صوتا حكيما، أو رأيا سديدا يدفع إلى إنهاء سباق الموت اليومي، وإيقاف توريد وتخزين السلاح وكل وسائل القتل والتنافس على تصفية وإبادة المتناطحين بعضهم البعض…
وحتى نعيد تنشيط الذاكرة، فإن حرب داحس والغبراء حرب من حروب الجاهلية بين قبيلتي عبس وذبيان، وهي إلى جانب حرب البسوس من أطول الحروب زمن الجاهلية… وقد يكون فيها بعض الواقع والكثير من الخيال والتداخل بين الاثنين… فالأمر يتعلق بسباق بين فرسين أرادت كل قبيلة أن تكسبه، فكان أن اشتعلت الحرب التي يقال إنها دامت أربعين سنة…
حرب داحس والغبراء في نسختها السودانية اليوم، إذا استمرت على ما هي عليه، لن تبقي ولن تذر وسيكون وقعها أشد من أي حرب نووية قد تحدث لسبب خطير، وهو أن المتصارعين ينتمون إلى بلد واحد وينحدرون من شعب واحد، ولن يكون بإمكان أي منهما اجتثاث واقتلاع الآخر…
وحده الشعب السوداني ضحية هذه الحرب يدفع الثمن من دماء أطفاله الجنود وأطفاله المشردين، وكل فئاته المستضعفة التي تتعرض للاغتصاب والتهجير، وثرواته التي لا تقدر بثمن والتي تحولت إلى لعنة تلاحق الأجيال المتعاقبة في بلد اشتركت في تدميره ديكتاتورية العسكر وديكتاتورية الإخوان، فكانت الضريبة الأولى تقسيم البلد الإفريقي الأكبر إلى بلدين، في ما بدأت تلوح في الأفق سيناريوهات تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ…