جيل واش من جيل
في المغرب المجتمع يسير بسرعته الخاصة، التي ليست هي بالضرورة سرعة السياسيين والوعاظ الدينيين.
هناك في أعماق ولاوعي المجتمع نظرة دونية متخلفة للمرأة، وإقبال على أنواع رجعية من الارتباط الزوجي، حتى من طرف بعض المتعلمين من السياسيين، كل هذا مقابل وجود حالات كثيرة لولوج المرأة لعالم القضاء وتعيين حوالي 300 في مهنة العدلية.
قبل سنوات، كان تقبل وجود قاضية تفصل بين المتقاضين أمرا صعبا، وقد حدث أن دخل خصمان متعاركان إلى المحكمة وعندما اكتشفا أن قاضية هي من ستفصل بينهما غادرا المحكمة على الفور، وعند سؤالهما عن السبب أجابا “تصالحنا أسيدي ما بقيناش مخاصمين، تلا بينا الزمان حتى غادي يحكمو علينا العيالات”.
ومثلما تقبل المواطن العادي اقتحام المرأة للقضاء سوف يتقبل اقتحامها للعدلية، وحتى لو وجد صعوبة في تقبل أن تكون امرأة هي من يحرر عقد نكاحه فإنه سوف يتعود على ذلك كما تعود على قبول “طهارة” أولادهم على يد طبيبات.
وإلى حدود الأمس، كان أولياء أمور الأطفال يرفضون أن يتم إعذار أبنائهم من طرف طبيبات، معتقدين أن ذلك فيه مَس برمزية فحولة أبنائهم، مشترطين أن يكون طبيب رجل من يقوم بذلك، لكن الأمور تغيرت اليوم.
ومن هنا يأتي السؤال حول سبب وأصل نظرة الرجل المغربي الدونية للمرأة.
في العائلة المغربية تتربى البنت في البيت على خدمة إخوتها الذكور منذ نعومة أظافرها، والذكور من جانبهم لديهم وصاية، بمباركة من الآباء، على أخواتهم الإناث منذ الصغر.
لذلك فالطفل عندما يكبر يعتبر كل البنات درجة ثانية وأنهن خلقن لكي يخدمنه وأنه بالضرورة وبالبداهة أفضل منهن.
لذلك يعتقد كثير من الذكور أن من حقهم إساءة معاملة البنت وأن يتحرشوا بها وأن من واجبها أن تخضع لهم.
ولعل ما يجعل الخليجيين والأجانب عموما يقعون في حب المرأة المغربية هو استعدادها الفطري لخدمة زوجها، وهي التربية التي لم تتلقها البنات في الخليج وفي المجتمعات العربية المرفهة الأخرى حيث هناك عمالة أجنبية تخدم على الذكور والإناث والأسرة بكاملها.
وهكذا عندما يكتشف الرجل الأجنبي استعداد المرأة المغربية لـ”تفشيشه” وخدمته يشعر بامتلاء في أناه وسعادة وانتشاء.
واليوم هناك من يدعو الرجال لستر عورة نسائهن وحجبهن عن الأنظار وهناك من يعمم هذه الدعوة تحت شعار “كوّن راجل وستر مراتك”، يريدون حصر الرجولة في رفض تعري النساء في الشواطئ، مع أن الرجولة الحقيقية “هيا ما تخليش هادوك اللي عطيتيهم السلطة باش يصرفو فلوسك يعريوك، الرجولة هيا ما تقبلش تعريك الدولة بالضرائب بلا ما تعطيك تعليم وتطبيب عمومي مناسب”.
وإلى جانب هذا الفهم البدائي للرجولة نجد في المقابل فتيات مثليات الجنس يصورن وينشرن خطبتهن لبعضهن البعض بوجوه مكشوفة، معتبرات ذلك شيئا عاديا، كما حدث في وجدة قبل أيام أو كما حدث في تارودانت قبل يومين.
وهكذا فالمجتمع المغربي يعيش زمنين يسيران على النقيض من بعضهما البعض، زمن الوعاظ الذين يطالبون الناس بالعودة إلى الماضي والتحلي بالرجولة بشكلها الأسطوري الراسخ في مخيال الرجل الشرقي وممارستها على المرأة، وزمن الجيل المنفلت من كل القواعد والثائر على المواضعات الاجتماعية والذي يعلن تحديه للمجتمع وأنماط عيشه التقليدية.
هذان النمطان من التفكير يتوسلان معا بوسائل التواصل الاجتماعي الحديثة لفرض وجودهما، ولعرض اختياراتهما الجنسية، والتي يتم التراجع عنها أحيانا بسبب “صدمة المجتمع” الذي يرفض، أحيانا بعنف، هذه الاختيارات والمواقف.
هناك اليوم انحراف خطير يتهدد الأسرة المغربية، التي هي النواة الصلبة للمجتمع، والإعلام العمومي يتحمل مسؤولية كبرى في هذا الصدد لأنه يقوم يوميا بتكرار ترويج نماذج أسرية واجتماعية غريبة عن قيم وعادات المجتمع المغربي.
وهنا يظهر الدور الأساسي للأب في التربية، وهناك باحثون يشيرون إلى أن ظاهرة انتشار العنف والفشل الدراسي والعقد النفسية بين الأطفال تعود إلى غياب الأب.
علينا أن نكون صريحين ونسأل أنفسنا بوضوح، كم أبا بيننا يذهب إلى المؤسسة التعليمية التي يدرس بها ابنه (أو ابنته) كل شهر لكي يسأل الإدارة عن سلوكه ومستواه الدراسي ومشاكله مع الأساتذة؟
أستطيع أن أقول إن هناك آباء لا يعرفون حتى المستوى الدراسي الذي يدرس به أبناؤهم، ولذلك فمن السهل أن نتهم الدولة بمسؤوليتها في فشل أبنائنا التعليمي، لكن هل يستطيع أن يعترف الآلاف من الآباء أنهم لا يعرفون أين تقضي بناتهم وأبناؤهم ساعات الفراغ بين حصة وأخرى.
فجميعنا نرى تلميذات في الثالثة عشرة من أعمارهن يوميا في أحياء المدن يجلسن أمام أبواب العمارات يراقبن مرور السيارات، ونراهن رفقة تلاميذ في أعمارهن يتجولن بحقائبهن فوق ظهورهن بين مقاهي الشيشة ونوادي الغولفازير المنتشرة مثل الفطر، حيث يضعن أولى خطواتهن في عالم الانحراف.
وهناك مدن هي الوحيدة بين مدن العالم حيث يمكن أن تبدأ حفلات راقصة مخصصة للمراهقين في أوقات الدراسة، أي ابتداء من الثالثة بعد الزوال، أمام أنظار المسؤولين.
هل يعرف آباء وأولياء التلاميذ أن هناك اليوم من يعرض على أبنائهم وبناتهم أمام أبواب الإعداديات والثانويات كؤوس النبيذ بدرهم ونصف للكأس، وأقراص القرقوبي وقطع الكيكة المحشوة بالمعجون والكالة وأقراص الإكستازي.
طبعا الدولة مسؤولة عن تقصيرها في محاربة تفشي هذه الأمراض أمام عتبات المؤسسات التعليمية، لكن الآباء أيضا مسؤولون، ويجب أن يبذلوا مجهودا كبيرا لمراقبة أبنائهم وبناتهم.
الشارع ليس مكانا آمنا حتى نرسل إليه أبناءنا ونجلس مطمئنين في البيت بانتظار عودتهم، الشارع غابة متوحشة مليئة بالذئاب الآدمية، وأطفالنا بمثابة طرائد سهلة بالنسبة لهؤلاء.
والواقع أن الجميع مدعو لتحمل مسؤوليته في هذه الكارثة الوطنية. وكم أشعر بالخجل عندما أسمع عن أرباح البنوك المغربية السنوية، وأرى كيف أن هذه المؤسسات المالية العملاقة ليس لديها برنامج لتقديم منح للطلبة المتفوقين، أو الطلبة المنحدرين من أوساط فقيرة. فكل همها هو تحقيق أرباح سنوية خيالية فقط.
هذه المؤسسات المالية الشحيحة مدعوة أيضا إلى تحمل مسؤوليتها في فشل السياسة التعليمية بالمغرب، لأنها لم تخصص جزءا من أرباحها لدعم هذا القطاع الحيوي والهام بالنسبة لمستقبل المغرب.
ما أحوج النخبة السياسية اليوم لأن تتأمل ما قاله كونفوشيوس، فقد قال “إذا كان مخططك لسنة واحدة ازرع الأرز، وإذا كان مخططك لعشر سنوات ازرع الأشجار، أما إذا كان مخططك لمائة سنة فعلم الأطفال”.