جيرمينال طبعة مغربية 2.1
عندما قالوا إن المغرب يعيش أوضاع فرنسا قبل قرن ونصف فإنهم لم يكونوا مخطئين، فبعد ما حدث في جرادة اكتشفنا أننا نعيش العصر الذي عاشه إميل زولا عندما كتب روايته «جيرمينال» حول مأساة عمال المناجم في فرنسا سنة 1885.
ومع تعاقب انتفاضات جهات المغرب غير النافع، من الريف مرورا بتنغير ووصولا إلى جرادة نكتشف أن لدينا نوعا من السياسيين لديهم عقدة التنين الصغير كريسو المشهور في سلسلة الرسوم المتحركة، فهو ينفث النار من فمه على كل ما يجده ومع ذلك يحلم أن يكون رجل إطفاء.
هؤلاء السياسيون الذين يتواجدون بكثرة في أحزاب تحالف اليسار شغلهم الأساسي هو البحث عن حطب يابس لنفث النار فيه من أجل تحقيق حلم إضرام «النار الكبرى» في الغابة بأكملها، والحطب بالنسبة لهؤلاء السياسيين هي المآسي الاجتماعية، وآخرها مأساة جرادة، وقبلها مأساة الحسيمة ومأساة زاكورة.
الحل الوحيد أمام الدولة ليس هو منع كريسو من نفث النار من فمه في الحطب اليابس، فهذه مهمته التي جبل عليها، بل إزالة الحطب اليابس من الغابة، أي القضاء على جيوب الفقر الذي يعتبر الوقود الطبيعي لكل احتجاج شعبي ولكل حراك أو انتفاضة.
مشكلة الدولة عندنا أنها لا تشتغل بمنطق استباقي في معالجتها للمشاكل الاجتماعية بل تكتفي بانتظار انفجار الوضع لمعالجة التداعيات.
وهذا ما يصنعه رئيس الحكومة عندما يدعو إلى إحصاء الفقراء والمشردين لمنحهم مساعدات لتمضية فصل الشتاء والبقاء أحياء، والحال أن مسؤولية رئيس الحكومة ليست هي تأبيد الفقر والتشرد بل القضاء على أسبابه، وليس بمنح المساعدات سينقرض الفقر والتشرد بل بإعادة توزيع الثروة بشكل عادل وخلق فرص الشغل الذي يضمن الكرامة، فالتشرد يأتي من الفقر والفقر يأتي من «قلة ما يدار».
ما حدث مؤخرا في جرادة بعد وفاة شابين داخل بئر لاستخراج الفحم يكشف بجلاء أن الحكومة ليست لديها حلول للقضاء على الفقر وكل ما تملكه خطاب حول محاربة الفقر، أي أنهم يريدون القضاء على الفقر بالنوايا الحسنة، وكلنا نعرف أن طريق الجحيم مفروش بالنوايا الحسنة.
والسؤال الذي يطرحه الجميع في جرادة هو لماذا لم تستفد مدينتهم من برامج التنمية التي تبرمجها وكالة تنمية الشمال كما أمر الملك في خطابه عندما قال «ومدينة جرادة، التي حرصنا على إدراجها واستفادتها، من برامج وكالة تنمية الأقاليم الشمالية، تجسيدا لعطفنا الملكي الفائق عليها».
فهل تجسيد العطف الملكي من طرف الحكومة هو إغلاق وزارة الصحة المستشفى الوحيد بالمدينة وإجبار المرضى على التنقل إلى مدينة وجدة؟
هل تجسيد العطف الملكي من طرف المكتب الوطني للكهرباء هو اقتناء مائة كيلو من الفحم المستخرج من مناجم البؤس بـ14 درهما وجلد الساكنة بفواتير باهظة كل شهر؟
هل تجسيد العطف الملكي من طرف وزارة البيئة الوصية على توجيهات «الكوب» هو ترك مدخنة المحطة الكهربائية تلوث الجو بدخانها الأسود المسموم متسببة للمواطنين وأبنائهم بالأمراض؟
لقد طفح كيل سكان جرادة، وخرجوا للاحتجاج رافضين أن يظل شباب المدينة الذي يتجرع البطالة والفقر طريدة للموت الأسود المتربص بهم داخل آبار العار التي ينزل إليها شباب المدينة حاملين أرواحهم على كفوفهم سعيا وراء «طرف خبز كحل» تحت طبقات الأرض المنخورة أصلا.
نعم لقد طفح كيل سكان جرادة، وخرجوا مطالبين بأبسط حقوقهم في العيش الكريم، فموت الشقيقين «الدعيوي» ليس إلا القطرة التي أفاضت كأس صبرهم، فلكم دفنوا من فلذات كبد قضوا غرقا أو اختناقا داخل آبار الفحم، ولكم عاينوا آباء وأجدادا نخرهم مرض «السيليكوز»، هذا المرض القاتل الذي لا يفرق بين قاصر وبالغ، وحينما يصاب به المرء فهو يسري فيه ببطء، لا يقتله في الشهر الأول أو العام الأول من الإصابة، بل قد يعيش المرء لأكثر من 30 سنة وهو مصاب بالسيليكوز فيما تنفسه ينقص تدريجيا حتى الموت، فمريض السيليكوز يعاني بشكل فظيع ويموت اختناقا بشكل مأساوي.
كان لا بد لجرادة أن تصرخ بعدما نفد صبرها، فالوعود التي صاحبت قرار إغلاق منجم الفحم الحجري بجرادة سنة 2001 وحل شركة «مفاحم المغرب»، والتي سطرتها الاتفاقية الجماعية الموقعة سنة 1998 بين النقابات الممثلة للعمال والحكومة، ذرتها الرياح مع مضي السنين وترك المسؤولون المتعاقبون سكان المدينة الذين كان الفحم معيلهم الوحيد، يواجهون بؤسهم وانسداد أبواب رزقهم بصدور عارية.
إن ما حدث يحتاج إلى فتح تحقيق موسع لكي يحدد المسؤول عن إعدام هذه المدينة، المسؤول الذي لم يطبق الشق الاقتصادي من الاتفاقية والذي تضمن خلق صندوق تضامني، جعل من بين أهدافه الأساسية تمويل مشاريع البنية التحتية من طرقات وإعادة هيكلة الأحياء العشوائية، وحل المشاكل المرتبطة بالعقار التابع بنسبة 70 في المائة لإدارة الأملاك المخزنية من أجل ضمان فرص الاستثمار، إلى جانب أن صندوق التضامن تحمل دور الضامن لفرص الاستثمار بالنسبة للمستثمرين أمام المؤسسات البنكية.
فرحل من رحل عن مدينة الفحم، وبقي من بقي، يصارع الفقر ويتجرع البؤس اليومي.