جنكيز خان والخلود وفلسفة الموت والحياة (1 ـ 2)
بقلم: خالص جلبي
من طلب الخلود كثيرون وكل منا يكره الموت. ومن الجبارين من ظن أنه يستطيع طرد ملك الموت منه، حتى نبي الله موسى الذي ضربه ففقأ عينه، كما جاء في الحديث على نحو رمزي. (جاء في الحديث الذي رواه الشيخان بما معناه، أن ملك الموت حين جاء إلى موسى لقبض روحه، رفضه بل وصكه ففقأ عينه فرجع إلى ربه فقال: أي رب أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، قال: فارجع إليه فأخبره أن يضع يده على متن ثور، فله بكل شعرة سنة. فقال موسى: أي ربه ثم مه، أي ماذا بعده؟ قال له ملك الموت: ثم الموت قال: فالآن، وفي الحديث فلو كنت هناك لأريتك قبره بجنب الكثيب الأحمر).
وصاحبنا جنكيز خان السفاح التاريخي استقدم فيلسوفا صينيا من أقصى الأرض في رحلة دامت أكثر من سنة، لينقل معه إمكانية أن يعيش الجبار فلا يموت ويبقى مقصلة في التاريخ، ولمن الموت كما وصفه الرب (وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون). ومما روت لي ابنتي، قبل لحظات من موت أمها، كأنها تراءى لها موكب جنائزي يحف بأمها حتى كان أجلها في ساعات معدودات. وأنا شخصيا عاصرت الليلة بعد دفن أمها، كيف صرخت ابنتي بشرى: «ماميتي ماميتي»، وفي الصباح لم تتذكر شيئا، أما أنا فتذكرت قولا يقول إن الميت يطوف ثلاث ليال في أمكنة من يحب قبل الالتحاق السرمدي بدار البقاء الأبدي. ومنذ قوم أبينا آدم الأول حاول الشيطان خديعته بالخلد وملك لا يبلى، وفي الحجار المسمارية في نينوى قرأنا في حروف الثقافة الأولى ملحمة جلجامش عن البحث عن نبات الخلود (زهرة اللوتس) وكيف التهمتها الأفعى ورجع باكيا إلى صديقه أنكيدو ليقول له: عش يومك وتمتع بكل لحظة حياة، فأنت ميت وسوف تدخل نفق الأبدية بدون عودة، كما أعيش أنا فأرى أحلاما تجمعني بزوجتي، أما الواقع فالزمن يفترسنا لحظة بلحظة كما قال الشاعر: «ليس من لحظة تمر بي إلا نقصتني بمرها في جزوا».
القصة المضحكة التي رواها ميتشيو كاكو من قصة الشباب والخلود، أن أفروديت أحبت شابا فتوسلت إلى زيوس في مجمع الألهة في الأولمب أن يمنحه الخلود، فوافق مجمع الآلهة أمام توسلها، ولكن صديقتنا أخطأت خطأ شنيعا إذ طلبت الخلود بدون شباب. لذا كان الشيطان ماكرا، حين خدم آدم فقال له: هل أدلك على اثنتين الخلد وملك لا يبلى من الشباب والصحة والغنى والامتلاك بجنب السرمدية. أما صديقتنا أفروديت فلم تر سوى حبيب تقضم منه الشيخوخة كل يوم ويذوي ويكثر من الثرثرة، وهو عادة (الشارف بتعبير المغاربة، أي ضربته الشيخوخة)، مما أزعج الآلهة فحولوه إلى صرصار الليل فليثرثر طول الليل بجناحيه ورجليه. ولذا فإن جنكيز خان السفاح وستالين وأضرابهما وعبد الناصر حين حج إلى موسكو وضعوه في الأنبوب الأكسجيني فجددوا خلاياه من جهة ونشطوها، ولكن ملك الموت كان أسبق فقبض روحه الخبيثة في الطائرة، وهو في أحد مواسم حجه إلى الرفاق الشيوعيين فهلك وهو في عمر 52 عاما.
في كتاب «جنكيز خان قاهر العالم» تأليف رينيه غروسيه يتقدم صديق لهذا المجرم (بو أورشو) ص 338، فيسأله المجرم عن أعظم فرحة يصادفها الإنسان في حياته؟ فيجيبه أورشو: «إن أعظم فرحة لي هي أن تذهب للصيد في يوم من أيام الربيع وأنت ممتط صهوة جواد مطهم، والباز أو الصقر واقف على معصميك والطريدة تسقط أمامك». والجواب كما نرى من خيالات بدوي لا يعرف إلا الصيد ليعيش؛ لكن جنكيز خان المجرم يفهم اللذة في صورة مختلفة فيعلق: «كلا .. إن أعظم فرحة وسرور يصيب الإنسان هو عندما ينزل الهزيمة بأعدائه، ويسوقهم كالقطيع أمامه، وعندما يرى ذويهم يذرفون الدمع عليهم جزافا، وأن يركب خيولهم، ويسحق بسلاحه بناتهم وزوجاتهم». والكتاب في الواقع يغطي حياة هذا السفاح، لذا كان من الضروري لفهم شخصية هذا الرجل الدموي قراءة طفولته من التشرد وقتل أبيه وربطه بالسلاسل في عبودية مطبقة، ثم بيعه في سوق النخاسة إلى الصينيين، وفراره من الصين، ثم خطف زوجته بوري، والالتجاء إلى صديقه لاستعادة زوجته الحامل من الخاطف.
كان السفاح اسمه تيموجين، ولكن أخذ في النهاية لقب الخان الأعظم جنكيز خان، بعد أن وحد قبائل الذئاب البشرية من منغوليا، لينقض على العالم بتكتيك خطير وصفه الكاتب لسيرته بأنه كان مزيجا من الحرب الصاعقة (طريقة هتلر Blitz Krieg) والدروع البشرية من أهالي المدن المقتحمة، ونظام تجسس محكم متقدم. فهم قبل الوصول إلى العدو، يعرفون مكوناته ومكامن القوة والضعف وتناقضاته الداخلية جيدا، يضاف إليه نظام صارم. وعلمنا من الرواية أن صهره لما خالف التعليمات أمر بإعدامه، ولولا وساطات ابنته والأقربين لما نجا، فأعفاه من منصبه وأبقاه على قيد الحياة. ونحن نعلم شبيها من هذا للسلطان سليمان القانوني، الذي أعدم ابنه وصهره ورئيس وزرائه إبراهيم باشا على الشبهة. على كل حال هم أيضا من شعوب آسيا الوسطى القاسية. يضاف إلى ما ذكرنا نظام عسكري قاس بتدريبات لا تقف، ثم الحرب المحمولة وهب الخيل وقارن ذلك بقوات غادرين النازية المحمولة على ظهورالدبابات لاختراق خط ماجينو في الحرب العالمية الثانية. وفي كتاب «الحرب الأسلحة والتكتيكات» نعرف أن مزيج الصدم والسرعة يحقق التفوق، وكان هؤلاء الذئاب البشرية يحسنون استخدام القوس والسهم وهم على ظهور الخيل، وأمام أي شبهة أو هفوة كان الجلاد والنطع جاهزين، كما حصل لأحد الكتاب المشهورين بتدبيج الرسائل الجميلة.