في خضم التطورات الأخيرة التي عرفها قطاع التعليم في المغرب، وبالخصوص إقصاء التكوينات الأساسية من الحق في ولوج وظيفة التعليم، تتوجب إثارة سؤال لطالما تبادر إلى أذهان الطلبة وعامة المجتمع ولم يحظ بعد بإجابات كافية ومُقنعة من طرف أهله، سؤال الجدوى من تكوينات العلوم الإنسانية من آداب وفنون في الجامعات. لماذا هذا السؤال بالذات وفي هذا الوقت؟
ياسر رديل/ كاتب مغربي
إن باقي التكوينات الأساسية في شق العلوم والتكنولوجيات والاقتصاد غير مرتهنة أساسا بالتعليم، وتظل على اتصال واضح بالنموذج الاقتصادي القائم على التصنيع والاستثمار في التكنولوجيات مهما اختلفت المداخل والمستويات، عكس الإنسانيات التي تتعرض إلى محك وجودي بفعل مثل هذه القرارات.
في جبهة الدفاع عن العلوم الإنسانية غالبا ما يتم اللجوء إلى حجج غير اقتصادية، بل يذهب البعض إلى أن اختبار جدوى الاستثمار في هذه العلوم من منظور اقتصادي ينطوي في حد ذاته على إساءة إلى مكانتها الاعتبارية والرمزية كتخصصات إنسانية خالصة تخاطب جوهر الإنسان ومعنى وجوده.
لا نختلف على أن تعليم الإنسانيات ينطوي على العديد من المزايا التي يمكن المُحاججة بها ضمن النقاش العمومي، كمسألة تحصين هوية المجتمع وحماية قيم الديمقراطية، ونبذ التعصب والإرهاب من خلال بث التفكير النقدي وغير ذلك من المزايا.. لكن كل هذه الحجج تظل غير قابلة للقياس والعرض ومن الصعب تعميمها وترجمتها إلى نتائج جماعية، وهي غير مُسمعة في أذهان صناع السياسات اليوم الذين ينتبهون فقط إلى الفائدة الاقتصادية المباشرة.
من هنا تركزت مداخلة الباحث في فلسفة التعليم تل جلعاد Tal Gilead في ورقة بحثية له على الفائدة الاقتصادية من الاستثمار في العلوم الإنسانية خلال مقاربته لسؤال الجدوى من هذا التخصص..، حيث أشَّر في البداية على مبحثين أساسيين في النظرية الاقتصادية المعاصرة يتجاوزان في اهتماماتهما موضوع الإنتاجية الاقتصادية، وهما الاقتصاد السلوكي واقتصاد السعادة.
فبخلاف النظرية الاقتصادية التقليدية لم يعد مسلما بأن سلوك الفرد الاقتصادي تقوده نوازع عقلانية أو تدفعه مفاهيم من قبيل العدالة والإنصاف والسعي المتواصل نحو تحقيق المصلحة الراجحة. بل هناك عوامل نفسية وثقافية واجتماعية تؤثر على قرارات الأفراد والمؤسسات. كما بدأ الانفتاح حول مفهوم السعادة كغاية من الاقتصاد، حيث تأكد أن تحقيق معدلات دخل فردي ممتازة لا يكفي في ضمان السعادة والرفاه في المجتمعات المتقدمة، وبالتالي بضرورة إعادة النظر في علاقة الثروة بالسعادة.
من خلال هذا المدخل النظري، تحدث جلعاد عن إمكانية تشكيل أنماط استهلاكية جديدة من خلال العلوم الإنسانية. وهو ما أسماه باستهلاك السلع والخدمات الثقافية. وحاجج بأن هذا النمط من الاستهلاك هو أقل عرضة لما يجعل من الاستهلاك المادي المُعتاد غير مُنتج للسعادة، وهو مفهوم التعوُّد، أي ضمور الاستجابة للحافز بفعل العروض المتكررة. وأظهرت الأبحاث أن الأشخاص في المتوسط يتعودون أكثر على المشتريات الملموسة مثل السيارات والمنازل بعكس المشتريات التي تكتنز تجربة غير ملموسة مثل الأفلام والسفريات. وتبعا لذلك، يجني الناس سعادة أكثر خلال استثمار مواردهم في السلع التجريبية (تعيش فيها تجربة غير مادية) عوض السلع المادية، لأن الأثر الإيجابي للأخيرة يتناقص عادة بشكل أسرع. علاوة على ذلك، تبين أن السلع والخدمات الثقافية، وخاصة تلك التي تنطوي على ثقافة عالية، تميل إلى أن تكون أكثر مناعة ضد الآثار السلبية للتعود. فكلما زاد تعرضنا للمنتجات والخدمات الثقافية، زادت قدرتنا على تقديرها واكتساب المتعة منها، عكس المنتجات والخدمات التي لا تحتاج إلى تدريس أو تدريب، مثل ألعاب الملاهي التي سرعان ما تنقرض المتعة منها بفعل الرتابة والتكرار وغياب التحدي. إذن، وفي الكثير من الحالات، يوفر استهلاك المنتجات الثقافية طريقة ناجعة لتحويل الموارد إلى سعادة من خلال تقديم أشكال جديدة ومتطورة باستمرار من المتعة والتحفيز.
من ناحية أخرى، تُصنف أغلب السلع الثقافية ضمن ما يصفه الاقتصاديون بالسلع غير المُنافسة، أي السلع التي لا يقلل استهلاك شخص ما منها من قدرة شخص آخر على الاستفادة منها، عكس أغلب السلع المادية. بل بالعكس من ذلك، هناك الكثير من السلع الثقافية التي توفر متعة أكبر عند استهلاكها جماعيا، كمشاهدة عرض جماعي أو مناقشة مضامين كتاب… وغياب معطى التنافسية يُجنب أيضا حالة مُحصلة الصفر التي يكون الجميع خاسرا فيها في النهاية. وبالتالي يكون نمط الاستهلاك الثقافي أقل تبذيرا ويوفر المزيد من الموارد للاستخدام المُنتج.
وبعيدا عن هذه الحجج النظرية، هناك أدلة تجريبية متراكمة تُفيد بأن استهلاك السلع والخدمات الثقافية يساهم بالفعل في توفير السعادة، وأنها طريقة فعالة لتحويل الثروة إلى سعادة (كغاية اقتصادية). وأظهرت بعض الدراسات أن الأشخاص الذين ينخرطون أكثر في الأنشطة الثقافية، مثل الاستماع إلى الموسيقى أو المشاركة في الأنشطة المتعلقة بالفنون، يميلون إلى إظهار مستوى أعلى من الرضى عن حياتهم.
في النهاية، الاستهلاك الثقافي بمزاياه ومحاسنه المُبيَّنة لن يحدث بشكل عفوي. ففي معظم الأحوال، يتطلب التمتع بالمنتجات الثقافية أن يتم أولا التعرض إليها على نطاق واسع وأن يتلقى المرشح لاستهلاكها نوعا من التدريب والتأهيل. فعلى سبيل المثال، لا يمكن للشخص الحصول على المتعة الكاملة من قراءة نص فلسفي معقد أو مقطع من الأدب الكلاسيكي إلا بعد اكتسابه للمهارات والمعرفة الأساسية. ومن غير المرجح أن يتحول المجتمع الذي لم يتعرض بشكل كاف للمنتجات الثقافية أو لم يتلق أفراده تدريبا وتأهيلا مناسبا في المجال إلى نمط الاستهلاك الثقافي. وهو الأمر الذي يمكن تأمينه عن طريق تدريس العلوم الإنسانية والاستثمار فيها. فمن خلال توفير المعرفة والتدريب في التاريخ والفلسفة والأدب ومختلف المجالات الأخرى، تُفتح الأبواب على مصراعيها أمام إمكانية الاستمتاع بالمنتجات والخدمات الثقافية التي لا حصر لها والتي تُشجع العلوم الإنسانية على استهلاكها بنشاط.
من الممكن، إذن، تبرير تدريس العلوم الإنسانية ودراستها من منظور اقتصادي مباشر، باعتبارها مدخلا لتغيير أنماط الاستهلاك بطريقة تسمح باستخدام الموارد على نحو أكثر فعالية وأكثر ضمانا لمستويات أعلى من السعادة.