شوف تشوف

شوف تشوف

جدول الضرب

يفتخر مخرج سينمائي مغربي، من أولئك الذين يعرفون بسينماهم على وجوههم، بأنه حطم الرقم القياسي الوطني لأطول «بوسة» في السينما المغربية.
وحسب الدرقاوي المشهور بالمخرج «البواس»، والذي سبق له أن اعترف بأنه يقبل ممثلاته على شفاههن من أجل تشجيعهن، فالقبلة الطويلة التي وضعها في فيلمه كانت مدروسة من مختلف الجوانب العلمية والجنسية ولم تكن حسبه لقطة اعتباطية.
أما الممثلة نرجس الحلاق التي تلقت هذه القبلة الطويلة، فقد قالت إن هذه أول وآخر مرة ستسمح لممثل بتقبيلها في مشهد سينمائي. «هيا اللي عارفة علاش».
يا لها من مفارقة عجيبة، عندما كان حزب العدالة والتنمية في المعارضة كان يشن عبر فريقه البرلماني وجيشه الإلكتروني هجومات لاذعة على كل من تسول له نفسه المس بالحياء العام، حتى كان كل من يتجرأ على «تنقاز السطر» يفكر في الأمر ألف مرة قبل أن يقدم عليه.
واليوم عندما أصبح الحزب يقود الحكومة أصبحنا نسمع عن أطول قبلة في تاريخ السينما المغربية في أفلام ممولة من المال العام، وأصبح نبيل عيوش، عضو المجلس الاجتماعي والاقتصادي، يمثل المغرب في مهرجان «كان» بفيلم عن الدعارة في مراكش تجسد أدوار البطولة فيه عاهرات حقيقيات جلبهن من المواخير والأرصفة، وفوق هذا كله ينبه المخرج عيوش ابن نور الدين عيوش محتكر صفقات الإشهار، إلى أن فيلمه لا يصلح لكي يشاهده الجميع، لأن فيه لقطات لا تليق بالجمهور الذي يقل عمره عن 18 سنة، «هيا داير البورنو والسلام».
ذهب الحياء ووضع القوم على وجوههم «قزديرة»، وطبعوا مع القبل والمداعبات ومشاهد الجنس في السينما بحجة أن ذلك يخدم القصة السينمائية، بل وأصبحوا يسمعون المخرجين يتباهون بتصوير هذه اللقطات وتحطيم الأرقام القياسية في طولها.
رحم الله زمنا كانت فيه دار البريهي لديها رقيب عتيد مهمته ترصد القبل واللقطات الخادشة للحياء في الأفلام التي كانت تشتريها القناة وقطعها بالمقص من «بوبينة السينتا».
كان ذلك في زمن الأبيض والأسود، أيام «السندباد البحري» و«سكوبيدو» وسلسلة «دلاس» و«جزيرة الكنز» و«طوم سويير»، التي من فرط إدماننا على حلقاتها أطلقنا اسمها على حي «النوايل»، فتعود الناس على التسمية في مخاطباتهم اليومية «فين غادي؟ غادي لدلاس، فين كنتي؟ كنت فدلاس».
كان جهاز التلفزيون يحتل مكانا مميزا في البيت، ومن أجله كانت تخيط الأمهات غطاء مطرزا بالزواقات يغشى به التلفزيون الشبيه بصندوق لتربية الأرانب بسبب كبره وبروز بطنه ومؤخرته.
في تلك الأزمنة كان جهاز التلفزيون لوحده ديكورا قائما بذاته يستحق أحسن مكان في البيت لكي يوضع فيه. وفوق التلفزيون كان غالبا ما توضع مزهرية مليئة بالورد وساعة المنبه «ديال الفروج»، حيث ينقر ديك بلا توقف حبات مرسومة على سطح الساعة.
وبينما يفتح أطفال اليوم جهاز التلفزيون بجهاز التحكم عن بعد في أي وقت يشاؤون لكي يتفرجوا على مئات القنوات، كنا نحن ننتظر السادسة مساء لكي يبدأ البث. نجلس نراقب تلك الدائرة العجيبة المليئة بالمربعات والمكعبات الملونة نصيخ السمع لذلك الطنين الحاد المنبعث من الجهاز بانتظار ساعة الحسم.
يبدأ النشيد الوطني، «منبت الأحرار»، ثم آيات من الذكر الحكيم، وبعدها تطل مقدمة البرامج لكي تخبرنا بما سنراه خلال المساء والليلة، قبل أن تبدأ حصة الرسوم المتحركة.
والواقع أن جيلا بكامله تعلم اللغة العربية بفضل الرسوم المتحركة التي كان يدبلجها السوريون والمصريون واللبنانيون من مختلف لغات العالم. ومن منا يستطيع أن ينسى جملا كاملة كان ينطقها «القرصان صموليت» في «جزيرة الكنز»، أو ياسمينة وعلي بابا في «السندباد البحري» أو أغنية «علّي علّي بطل فليد هيا طر يا غريندايزر»؟
كانت الرسوم المتحركة في ذلك الوقت تحكي قصصا إنسانية عميقة المعاني، قصص انتصار الخير على الشر، فتحولت الرسوم المتحركة اليوم إلى سلسلة للرسوم العنيفة، وحوش ضارية تتقاتل في ما بينها ومسوخ على هيئة مردة وشياطين ينفثون النار من أفواههم وأنوفهم. وقد تابعت مؤخرا حلقة من تلك الرسوم المتحركة التي يعرضونها لأطفال اليوم فأصبت بالذهول، كل الشخوص والأبطال كائنات غريبة مشوهة تمجد العنف والقتال وتسعى للحصول على السلطة، أي جيل يصنع هؤلاء بمثل هذه المسوخات؟
وطبعا لم يكن جهاز التلفزيون متاحا لجميع الأسر، بسبب كلفته الباهظة آنذاك. وأذكر أن أسرا كاملة كانت تحط الرحال في البيوت التي لدى أهلها تلفزيون من أجل متابعة سهرة السبت التي كانت تبث مباشرة من استوديوهات عين الشق. سهرة السبت مع كؤوس من «مونادا جيدور مولات إطرو وربع، شرب وتبرع»، كما كان يقول «الريكلام»، يا سلام.
في ذلك الزمن كان كل شيء يتحرك بالضرب، حتى التلفزيون عندما كان يصاب بعطب مفاجئ وتختفي الصورة والصوت تاركة المجال لذلك «التشاش» الذي كنا نكرهه، خصوصا عندما يصادف بث الرسوم المتحركة، تسمع من يقول «نوض ضربو»، وبمجرد ما يأخذ التلفزيون ضربة على رأسه حتى تعود الصورة والصوت إلى حالهما السابق.
وهناك من أبدع في هذا الاجتهاد التقني بحيث لا يكلف نفسه القيام لضرب التلفزيون بل يرميه بفردة حذاء من «السداري» الذي ينشر فوقه جسده وكفى الله المؤمنين شر القتال.
غريب أمرنا نحن المغاربة، نضرب الراديو عندما يتعطل، ونضرب ساعة المعصم عندما تتوقف، وهكذا فهمنا منذ تلك الطفولة المبكرة أن الضرب هو الحل، فكبرنا مضاربين مع كل شيء ومضروبين من طرف كل شيء.
وكم آلمونا وهم يضربوننا أمام باب السينما ونحن ننتظر «الأونطراكت». ضربونا ونحن ننتظر «العباسية» خلال الربع ساعة الأخير من الشوط الثاني لندخل إلى ملعب كرة القدم. ضربونا ونحن نتزاحم أمام باب المسبح البلدي بانتظار أن يمنحنا الحارس عشر دقائق الأخيرة لنغطس في مياهه التي نصفها بول ونصفها الآخر «جافيل» و«كلور»، أجسادنا الملتهبة بسبب الحر.
كبرنا هكذا، بقسوة كبيرة وبحنان أقل. لكن كان علينا أن نكبر رغم ذلك، مثل نباتات وحشية بين الصخر في غابة بأشجار ضخمة تحجب عنها ضوء الشمس. تشبثنا بالأمل، ورفعنا رؤوسنا نحو الأعلى لنحصل على حصتنا من الضوء. وعندما أخرجنا رؤوسنا إلى العالم وجدنا الأسياد مرة أخرى واقفين بسياطهم بانتظارنا. بابتسامتهم الشامتة ونظراتهم الساخرة التي تستكثر علينا أننا كبرنا نحن أيضا مثل أبنائهم، رغم السعال الديكي و«بوحمرون» و«العواية» والسل و«بوصفير».
كبرنا بفضل حقن منظمة الصحة العالمية و«البي سي جي» و«البوماضا» الشبيهة ببزاق الدجاجة والتي كانوا يلطخون بها عيوننا الصغيرة والمعمشة. وعادوا إلى ضربنا من جديد، كما ظلوا يفعلون دائما معنا. طردونا عندما كبرنا وحصلنا على الشهادات ووقفنا أمام أبواب مكاتبهم في العمالات وجئنا نطلب جوازات سفر لنتابع دراستنا في الخارج، أريناهم شهادات تسجيلنا في جامعات ونقطنا الجيدة التي حصلنا عليها بسهرنا الطويل، أريناها للبلداء الذين لا شهادات لهم، فأخرجونا من مكاتبهم وطردونا بعد أن تذكروا نقط أبنائهم المدللين ورتبهم المخجلة.
ولكي يريحوا ضمائرهم الميتة نصحونا بالتعرف إلى بلادنا جيدا قبل الذهاب إلى بلدان الناس. الكلاب، ضيعوا مستقبل الآلاف منا بجرة قلم. ضربونا عندما جئنا نطالبهم بشغل. أرسلوا نصفنا إلى المستعجلات والنصف الآخر إلى بيوتهم محطمي الأضلع والأحلام. رفسونا في الشوارع بأحذيتهم الثقيلة، وداسوا شهاداتنا العليا التي لم تعد تصلح سوى لرفعها في المسيرات الاحتجاجية. بقينا أخيرا هنا كما أرادوا، وفجأة فهمنا لماذا أرادونا أن نبقى معهم، لأنهم كانوا محتاجين لجيل كامل يجربون فيه حقدهم. حقنونا كل مساء بالمهدئات في نشرات الأخبار لكي لا ننفجر في وجوههم، وشرعوا يكذبون علينا في الحكومة والبرلمان. تناوبوا علينا مثلما تتناوب عصابة من المنحرفين في مكان مظلم على امرأة وحيدة تعود إلى البيت بعد يوم عمل شاق. وعندما تعبوا منا رموا بنا إلى الشوارع وتركونا نقطع الطريق على بعضنا البعض بالسيوف الطويلة وشفرات الحلاقة وقنينات الماء الحارق.
تمنينا أن نصدقهم ذات يوم وهم يتحدثون عن مصلحتنا ومستقبلنا. تمنينا أن نصدقهم ذات يوم وهم يتحدثون باسمنا في كل مكان. تمنينا أن نصدقهم ذات يوم وهم يعترفون لنا بالحب كلما اقتربت الانتخابات. الكذابون المحتالون المنافقون. شخنا قبل الأوان بسببهم ونخرتنا الأمراض المزمنة. كرهونا في البلاد حتى أصبحنا نرى أن الحل الوحيد لكي لا نصاب بالجنون هو أن نجمع حقائبنا ونغادر، مثلما تغادر امرأة تعيسة بيت زوجها السكير الذي يحطم أضلاعها كل ليلة. نغادر كلنا ونترك هؤلاء السفهاء وحدهم يكذبون ويصدقون أكاذيبهم.
والنتيجة هي ما نراه الآن في الشوارع والمدارس والجامعات والساحات العامة والأسواق، جيل مشوه الخلقة يسير نحو المستقبل بخطوات سكير بائس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى