شوف تشوف

الرئيسيةدين و فكر

جدلية النص والواقع.. اللغة والنصوص الكتابية

بقلم: خالص جلبي

ليس هناك من طريق للخروج من الفهم الخاطئ إلى الصواب، إلا بالرجوع إلى تأمل الظاهرة والنظر في عواقبها، فإذا جعلنا النظر إلى الوقائع والظواهر وعواقبها مستبعدا، فلا يمكن الحل بواسطة الصور الذهنية، لأن الصور الذهنية المنفصلة عن الواقع يمكن أن تكون أوهاما، لذا لا بد من العودة إلى الواقع. وهو أن الواقع أدل على نفسه من الصورة التي نتخيلها نحن، وأدل على نفسه أيضا من الكلمة التي نطلقها على صورنا الذهنية، وهذه الحقيقة المستبعدة هي أم المشكلات الإنسانية.

ويمكن ذكر ظاهرة يمارسها «النحّال» وتحصل يوميا أو فصليا، وذلك حين يكشف خلايا النحل، فيجد ملاحظات عليها ويضع مثلا حجرا صغيرا على الخلية الضعيفة، فيصير الحجر رمزا على معنى معين، فإذا رأينا حجرا على خلية نعرف بمصطلحنا الذي ولده تصورنا عن الخلية، في أثناء وضع الحجر. ولكن يحدث في مرحلة ثانية عند الكشف عن الخلايا، أن نضع حجرا أكبر على الخلية القوية وليست الضعيفة، لأنها تحتاج إلى إضافة إطارات جديدة للشغل، فنعرف أن الخلية التي عليها حجر كبير تحتاج إلى إطارات جديدة. وأحيانا نضع حجرا مختلفا على الخلية المريضة لنعرف أنها بحاجة إلى معالجة، ومرة رابعة قد نضع الحجر في وسط الخلية ليدل على المرض، وأحيانا نضع الحجر في الأمام ليدل على الضعف، وأحيانا نضع الحجر في المؤخرة ليدل على القوة. وفي يوم نرى حجرا فلا نعرف على أي شيء يدل، هل هو دلالة على الضعف، أم القوة، أم المرض، أم على نوع النحل، كأن نعد خلية للإكثار من نوعها، فتختلط علينا الأمور فلا نعرف على أي شيء وضعنا الحجر، وعلى ماذا يدل؟ وأمام هذا الاضطراب فإن الشيء الذي نفعله بعد قليل من التفكير، هو إلغاء دلالة الحجر والعودة إلى التعامل مع الخلية من جديد، أي العودة إلى الواقع.

هذه الظاهرة الطبيعية تساعدنا على فهم المشكلة العويصة، وهي أن الحجر الذي وضعناه لم يصر هو مصدر المعرفة والعلم، وإنما هو رمز قابل لأن يعطي معان كثيرة. ولكن للخروج من الحيرة نعود إلى الواقع، للتعامل معه برموز جديدة. الرموز ليست هي المرجع الحقيقي، بل مرجع ثانوي عارض لفهم الحقيقة والتعامل معها. هذه النقطة الجلية والخفية معا، هي التي تحدث المشكلات والأزمات في العالم الإسلامي والعالم الإنساني.

الله تعامل معنا بالرموز والحقائق، وقال لنا بأن نرجع دائما إلى الواقع وننظر فيه، وإن الرموز إن هي إلا مساعدات مرحلية مؤقتة، يمكن أن تختلف بحسب الزمان والمكان، ولكن سننه الواقعية لن تتغير، وكلما رجعنا إليها نجدها كما هي ثابتة، «ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا»، ولكن الرموز يمكن أن تتبدل وتتحول ولا تزيد على أسماء ما أنزل الله بها من سلطان.

السلطان هو في السنة الثابتة ويمكن أن نقول إن الرمز شيء مساعد للفهم وقتي، ولكن الواقع هو المرجع والأساس، من سنة الذرة إلى قانون المجرة.

ومن هنا لما بدأ الاهتمام بالوقائع والتفاهم مع الله بواسطة سننه توقفت النبوة، لأن النبوة مرحلية وانتهت، ولكن النبي الأخير (ص) وخاتمهم لما أصر على النظر في الكون والاعتبار بسنن الماضين، كل هذه أدلة متظاهرة على أن التعامل مع الله، وفق سننه، لا يتغير مع أهوائنا «ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن».

وانتبه إلى هذا محمد إقبال، خاصة في بحث ختم النبوة ولماذا ختمت، ولم يعد يأتي نبي ولا كتاب، لأن الكتاب والنبي الخاتم دلانا على الطريق الذي لا ينتهي، دلانا على الكلام الذي ليس هو حروف وكلمات، بل وقائع ملموسة وحقائق لا تهتز أو تتغير.

كتب آية الله عبد الله جواد الآملي في مجلة «الثقافة»، وهو يشرح معنى الكتاب من سورة «الرعد»، وما المقصود به؟ فقال إن الكتاب التكويني هو الكون وإن الكتاب التدويني هو القرآن، وكلاهما حق. ثم وضع عنوانا آخر ذهب إلى أن الكون كله علم متجسد، وقال إن هذا النظام مهيمن على البشر، والعلم يدرسه لأنه هو نفسه، أي الكون علم متجسد.

نحن إذا دخلنا مكتبة رأينا عدة آلاف من الكتب، فنقول إنها علوم وما كتب فيها علم، والذين ألفوها علماء وإنهم تلاميذ هذا النظام، وما دونوه هو جزء يسير مما عرفوه من هذا الوجود. ولكن كيف يكون محتوى هذه الكتب علما؟ والذين دونوه علماء؟ وأن مضامين الكتب ومعارف العلماء هي كون متجسد.

والذي أريد أن أقوله إننا لا يمكن ولا نستطيع أن نقول إننا نفهم القرآن. والدليل على ذلك كيف ألح الله على معرفة التاريخ البشري في القرآن وأخبار الأمم، وأن نكون شهداء على الناس. ولكن هذا القسم الضخم من القرآن أهمله المسلمون، وكأنه لا قيمة له أبدا ولا يلتفت إليه، ولا يحاول أحد أن يجعل نفسه مختصا فيه. وما يجب أن نفهمه من هذا، أن دلالة الكتاب يمكن أن تلغى إلغاء تاما وكأنه غير موجود، والذي سينبه المسلمين إلى هذا الذي في الكتاب، هو الاهتمام بالتاريخ والكون، والمثل على ذلك قوله تعالى: «سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق». وهذه الآية موجودة عند المسلمين، منذ يوم نزولها، ولكن هذه الآية لم تفد المسلمين بشيء، وحتى الذين عرفوا كيف بدأ الخلق لم ينطلقوا في بحثهم من هذه الآية، وإنما من ملاحظة الكون فكان الانطلاق.

والذي دل على نفسه وما فيه، هو الكون ذاته وليس الكتاب، والأدل والأعمق في الدلالة أن المسلمين يرفضون معنى هذه الآية، بعد أن صار محتوى هذه الآية المرجع الأساسي لفهم الأمور. مرة أخرى أقول إن الحدث أو الشيء أدل على ذاته من كل وصف، وعند الاختلاف فالمرجع ليس الكتاب، وإنما العودة إلى الحدث أو الشيء.

ومثلا فإن صخرة ما أدل على نفسها من كل كلام يقال عنها، حتى لو كان كلام الله، لأن الله استخدم كلام البشر في الحديث عنها، ولكنه لما خلق الصخرة لم يحتج للبشر، فالصخرة أدل على صنع الله من كل كلام يمكن أن يقال عن الصخرة، وعند الاختلاف فإن المرجع الذي يجب الرجوع إليه ليس الكلام، بل هو البحث في الصخرة ذاتها. ويروى عن تلاميذ لأرسطو تناقشوا عن عدد أسنان الحصان فاختلفوا جدا، ولو فتحوا فم الحصان وعدوا الأسنان لوصلوا، وتوقف النزاع.

وإذا جاء علم جديد وفهم جديد أعمق عن الصخرة، فلن يزيد على التعامل مع الصخرة، وهذه البديهية البسيطة مخفية عن أعين المسلمين وعن البشر أيضا. لهذا يلح القرآن على الرجوع إلى الكون المادي والاجتماعي، لفهم سننه ونظامه، ويدلل بذلك على أن الواقع أدل على ذاته من كلامه أيضا، ولما يقول ستفهمون في المستقبل معنى هذا الكلام، لأن الواقع هو الذي سيكشفه.

وحين يسأل الأخ الكريم ويقول: فهل رادع الخوف من الدمار وحده كاف لإنهاء الحروب ليحل السلام في العالم، أم السلام بالإسلام الحقيقي؟ وجوابي أن رادع الخوف من الله لم يصنع السلام، بين المسيحيين، خلال ألفي سنة. كما أن رادع الخوف من الله لم يصنع السلام بين المسلمين، خلال ألف وخمسمائة عام، بدءا من معركة صفين وانتهاء بحرب الخليج. ولكن الرادع النووي صنع السلام، بين الذين دخلوا هذا العالم، وهذا ليس عيبا في الإسلام ولا نقصا فيه.

لا بد من إقامة الدليل، والدليل واقع في الأرض. والرادع النووي صنع السلام، والرادع الديني الأخروي لم يصنع سلاما. عفوا ينبغي أن لا نخطئ، فلماذا لا نقول عن الرادع النووي إنه رادع إلهي أيضا وبسننه؟

فهذا ما يقول الله عنه: إذا كنتم لا تصنعون السلام، لأني أقول لكم ادخلوا في السلم، فدخلتم الحرب، فلسوف أرغمكم بآيات الآفاق على الدخول في السلم كافة، فهذا معنى انظروا وانتظروا.

إن لم يحصل لكم إيمان بالموعظة، فسيحصل لكم إيمان رغما عنكم بعواقب الأمور. ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها، وظلالهم بالغدو والآصال. 

قتل الإنسان ما أكفره اقتصادي وطماع، إذا ظن أنه ينجو بالعقوبة فسيغامر ويدخل إلى المخاطر، ولكن إذا تأكد له أنه سوف لن ينجو فهنا يعد إلى العشرة والمائة والألف، قبل اقتحام العقبة وما أدراك ما العقبة؟

الحرب يدخل إليها الإنسان طمعا في النصر، ولكن إذا تأكد من الهزيمة والموت لا يقدم عليها الإنسان، إلا كما يقدم على الانتحار. وطبعا فإن عدد المنتحرين دون شك أقل من الذين يموتون موتا طبيعيا.

هذه الأشياء يمكن دراستها من خلال الواقع الإنساني وطبيعته وتكوينه، ودراسة خلق الله لا تناقض الكتاب، ولكن البدء في الدراسة من كتاب الله، دون أن يعترف للواقع بأنه هو الذي سيشهد في النهاية بمعنى الكتاب وصدقه، لا يحل المشكلة بل يضاعفها.

وهذا الأسلوب غير واقعي، بل الواقعي هو الذي يرغم الجميع هو الآتي، أي لما تظهر الأمور في الآفاق نضطر إلى أن نغير فهمنا للقرآن.

القرآن يقول عن القلوب إنها هي التي تفقه، أي أن القلب هو عضو الفهم «لهم قلوب لا يفقهون بها»، ولكن الواقع أي التعامل مع الواقع كشف أن القلب لا يزيد على مضخة للدم ولا علاقة له بالفهم، وإنما هو مضخة قابلة أن تعمل بسرعة أو ببطء، حسب الأوامر التي تصدر إليها، وليست هي التي تصدر الأوامر.

والواقع هو الذي بين أن هذا القول حقيقة أو مجاز أو خيال، لأن الإنسان يشعر أن قلبه هو الذي يخاف ويطمئن «ألا بذكر الله تطمئن القلوب»، وهذا الحديث عن الشعور العام السطحي، وليس عن أساس البحث العميق في الواقع. ومع ذلك فالإنسان سيرجع إلى أن القلب هو الذي يفهم، إذا ثبت بالدليل الخارجي هذا الشيء، لا بمجرد القول.

حدثني صديق لي أن بعض الناس تشككوا في وصول الناس إلى القمر، فاجتمعوا ليتخذوا قرارا في هذا. وفي أثناء بحثهم، قال أحدهم: إذا تبين فعلا أنهم وصلوا إلى القمر، فماذا سنقول؟ قالوا: سنقول إن فهمنا للقرآن كان خاطئا. وهذا المثل أو الحدث لا يهم، سواء وقع أم لا، ولكن الواقع يدل على أن هذا التسلسل هو الذي كان يحدث على مر التاريخ.

نحن الآن نصاب بصدمة في مثل هذه الأمور، ولكن بسبب الصدمة هذه استوعبنا جدة الموضوع وصدقه وواقعيته، فالناس ينكرون الأشياء الجديدة في أول الأمر، ولكن بعد أن يشهد الواقع يضطرون إلى أن يتكيفوا معه. وفي بلد مسلم حدثت معركة كبرى حول استخدام مكبرات الصوت للأذان، قبل أربعين سنة، أنه بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. واليوم لا يرتفع في المدينة نفسها صوت الأذان، إلا بمكبرات الصوت وأحيانا في السحر لقيام رمضان ولساعات، وفي مسجد داخل مشفى في عمل لا يوصف بأنه مريح، لمرضى بأمس الحاجة إلى الراحة والنوم.

وما كتبت سابقا يصيبني بالزهد كمن يخض الماء، لأن البحث والمتابعة وإعادة القول مرارا غير مفيد وجدواه في المستقبل القريب المنظور قليلة، لأن هناك مشكلة إنسانية أن الشيء الذي يسلم به كثير من الناس يسهل قبوله، لا لأنه صواب، بل لأن التسليم به لا يحدث معارضة وحرجا. ولكن الأمر الذي ينكره الناس، سيما حين يتم الإجماع على إنكاره، يفقد الإنسان القدرة على إدراكه. وعندما جاء النبي بالصدق، قالوا عنه: كذاب أشر، سيعلمون غدا من الكذاب الأشر؟ 

إلا أن معرفة التاريخ، وكيف مر البشر بمثل هذه المنعطفات كثيرا، ومن اطلع على التاريخ الإنساني يكتشف أنهم كانوا يرفضون أمورا، ثم يقرون بها، وكانوا يقبلون أمورا أخرى، ثم يتركونها.

إن رؤية نماذج من هذا النوع تجعل الإنسان يتشكك في أن هذه الأشياء التي نسلم بها ليست خالدة أبدية، والله وحده هو الأبدي السرمدي ليس كمثله شيء، ولكن المخلوقات متغيرة.

لو تيسر للإنسان أن يراقب فكريا وضع الكرة الأرضية، ونشوء الحياة فيها، وأنواع الحيوانات التي عاشت فيها وفي يوم ما كانت الحياة كلها في الماء، ثم صارت اليابسة، ثم وجد الإنسان، فقد يطرح السؤال نفسه، لماذا لا يخطر في بالنا أن هذا الخلق لا يزال مستمرا؟ لماذا لا يخطر في بالنا أن الخلق لم يتوقف، ولا يزال يخلق ويزداد في الخلق وأن هناك نشأة أخرى؟

إن الميزة الكبرى للإنسان أنه يستفيد من التاريخ، ومعرفة كيف بدأ الخلق، هي التي تدل على استمرار الخلق والزيادة فيه. ونحن البشر لم ندرك تاريخ الأرض، إلا منذ مائتي عام. فما هي المائتا عام بالنسبة لملايين السنوات التي عاشتها الأرض، وليس فيها كائنات عاقلة؟ إن من خلال التاريخ سيضطر المسلمون إلى أن يغيروا فهمهم للقرآن. وعند هذه النقطة فإن المسلمين يقفون من التاريخ موقفا سلبيا ولا يعترفون بالتاريخ العام، وإنما بتاريخهم فقط، بينما لا يأخذ تاريخهم حجمه الحقيقي سلبا وإيجابا، إلا إذا نظر إليه من خلال التاريخ العام.

إننا نتعلم ببطء شديد وبمعاناة أشد نتعلم من بعض، ونعترف لبعض. وبالمعاناة نتمكن من إبصار بصيص من النور الخافت.

 

نافذة:

الواقع أدل على نفسه من الصورة التي نتخيلها نحن وأدل على نفسه أيضا من الكلمة التي نطلقها على صورنا الذهنية

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى