شوف تشوف

الرأي

جدلية العنف واللاعنف من منظور قرآني (5)

بقلم: خالص جلبي

الدفاع عن النفس الفردي في مواجهات مع عيارين وأشقياء وزعران في مناسبات سرقة ولصوصية وتحرش واعتداء وما شابه، يجب حلها عن طريق الدولة التي مهمتها هذه الأعمال، وإلا تحول المجتمع إلى غابة، فإن غابت الدولة قام الفرد بما يسد هذا الفراغ، لحين حضور رجل الدولة. وحديثنا هو عن التغيير السياسي أن الدولة أو المجتمع لو أراد اعتقال أو تعذيب أو سجن فرد ما، قام ضد الدولة وعارض الوضع السياسي، فلا يلجأ إلى القوة ضد الدولة، بل يتحلى بالصبر وضبط النفس، أو الهجرة في الحالات التي لم تعد تطاق، ويئس صاحبها من إمكانية التغيير في ظل وضع سياسي مشؤوم، والقرآن حض على الهجرة في هذه الحالات، كما جاء في قصة أصحاب الكهف، الذين ضنوا بكلبهم أن يعيش في مجتمع وثني. وهذا الكلام ليس نكتة، ففي ليلة واحدة أمر الحاكم بأمر الله الفاطمي بإعدام كل كلاب القاهرة، لأنهم أزعجوه بنباحهم، فحصلت مذبحة قضت على ثلاثين ألف كلب ويزيدون. أما ماعدا ذلك فطريقة التغيير الاجتماعية التي مارسها الأنبياء جاءت على نحو واضح في الآية 34 من سورة الأنعام: «ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين». فهذه الطريقة، والاستمرار فيها، هما طريقتا صناعة الحكم والمجتمع في الإسلام.
ولب المشكلة هنا أن من غير الأوضاع بالسيف والقوة المسلحة ونجح في ذلك، ارتهن للقوة فأزال الطاغوت ليجلس محله، فلا تزداد الأمور إلا مسخا وخسفا. وهناك طرق ثورية في التغيير، كما أن الديموقراطيات الحديثة ترى أن الثورة المسلحة وقتل الظالم شيء مشروع، كما حدث مع الثورة البلشفية والفرنسية والأمريكية، أما طرق الأنبياء فمختلفة. وهناك نقطة أشكلت على الأخ الذي أشرنا إليه في ما سبق، هي موضوع اجتياح الشعوب وكيف تدافع عن نفسها، وهي نقطة قوية مما جاء في مقالته.
قال: «وحضارة الإنكا في أمريكا الجنوبية كانت حضارة راقية مسالمة ذات مدن ضخمة وأنظمة ري متطورة، ولم تُبادئ الغزاة الإسبان بأذى يذكر، بل إنها حاولت مد أيدي التواصل إليهم مرارا، فكيف صمد اللاعنف أمام همجية العنصرية الأوربية؟ لقد دمر الأوربيون حضارة الإنكا بالكامل، وقتلوا آخر ملوكهم بعد أن أعطاهم من الذهب ما لم يتخيلوا وجوده في أزهى أحلامهم، وانقرض شعب الإنكا وبادت لغته ودمر تراثه، ولم يبق منه اليوم إلا شراذم مضطهدة معزولة. وقد انتشر لدى الحركات العنصرية الأوربية أن مسالمة هذه الشعوب المقهورة واستكانتها إلى مصيرها، ما هي إلا لاقتناعها بتفوق الجنس الأبيض، فكان اللاعنف دعوة مفتوحة إلى مزيد من العنف والمزيد من الإجرام من قبل الطرف المعتدي». وهذه المعلومة التي جاء بها الأخ تعرج قليلا؛ يخيل للجاهل من سحره أنها تسعى وهي حبال. فلا حضارة الإنكا مدت يد المسالمة، ولم تكن تعيش في ما بينها بسلام، ولم تمارس اللاعنف في وجه العصابات الإسبانية، وهنا الخطأ مضاعف ثلاث مرات.
وأنا تتبعت هذه الفكرة وفكرت فيها مليا. ويجب استيعابها ضمن بانوراما جديدة للفهم الإنساني. وحضارتا الأزتيك والإنكا كانتا دمويتين جدا، ولم يكن لمائة رجل أن يدمروا حضارة يعد أهلها بالملايين، بل كانتا تمارسان القتل على نحو جنوني. ومما يذكر أن حكام الأزتيك كانوا يذبحون في أيام العيد لمدة بضعة أيام 30 ألفا من خيرة الشباب من الشعوب المجاورة، وهو أمر تحققت منه قناة «الديسكفري»، وكورتيس تغلب عليهم من الانشقاق الداخلي. وتحريض بقية الشعوب المظلومة المضطهدة ضدهم، فلما استطاع جمع كلمتها قضت بسهولة على حضارة الأزتيك، وينطبق الكلام نفسه على بيزارو وحضارة الإنكا وملكهم هواتا هوالبا الذي خنق وشنق. وهو الأمر ذاته الذي فعله الإسكندر مع مملكة الفرس، وينطبق على الفتح الإسلامي لمصر الذي تم على يد أربعة آلاف جندي.
الجهاد غير القتال، والقتال قد يكون من الجهاد وقد يكون من عمل الشيطان، إن كيد الشيطان كان ضعيفا. فحين ينضبط القتال كطاقة لهدف قد يخدم موضوع الجهاد. وهنا يشبه الجهاد عمل إطفائيات الحريق على المستوى العالمي في صراع الدول بين بعضها البعض، فهذا هو الجهاد، وله شروطه، فهو ليس أداة بيد فرد أو حزب أو جماعة، بل يجب ممارسته بيد دولة وصلت إلى الحكم برضا الناس، ويسخر ضد الظلم، أي إنه «دعوة إلى إقامة حلف عالمي لرفع الظلم عن الناس أينما كانوا ومهما دانوا»، وهو ما يكرره القرآن عن (رفع الفتنة عن الناس)، كما هو في حكم أنظمة المخابرات في الأنظمة الثورية العربية وغير الثورية، فالكل يستحم في العين الحمئة نفسها. ومن هذا الجانب فإن جاز الجهاد فهو ضد هذه الأنظمة، التي تفتن الإنسان من قوى عادلة ولو كانت غير مسلمة، ولو أن أمريكا فعلت الشيء نفسه في كل العالم لدخل الناس في دينها أفواجا، ولكنها تنصر إسرائيل، وتدعم الديكتاتوريين في كل مكان، وتريد التوسع والهيمنة، وتلعب دور فرعون المستكبر في العالم، الذي طغى في البلاد فأكثر فيها الفساد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى