جدلية العدل والأمن والحريات
بقلم: خالص جلبي
يعتبر «أبراهام ماسلو»، عالم النفس من المدرسة الإنسانية، أن الطابق الثالث في هرم الحاجات الإنسانية، هو الحاجة إلى (الانتماء الاجتماعي)، بعد الحاجات الفسيولوجية والأمن الاجتماعي، فقد يعيش سوري في ألمانيا، يأكل جيدا، ويعمل براتب مجزي، ولا يخاف من الاعتقال العشوائي من وراء تقرير كاذب تطوع به عميل سري، ولكنه مع هذا لا يمتلك الانتماء إلى المجتمع الألماني. والانتماء هو الذي يخلق روح المشاركة الاجتماعية، والإحساس بمشاكل المجتمع، والدفاع عنه لحظة الخطر، وعندما تتفشى روح عدم الانتماء؛ ينقلب المجتمع إلى (شبح مجتمع) يسهل اختراقه واحتلاله، كما حصل مع تبخر نظام صدام في وجه القوات الأمريكية، غداة التهام العراق في ربيع 2003م. ويعد ماسلو في الطابق الرابع (الحاجة إلى التقدير) التي يبنيها الفرد من خلال التواصل مع المجتمع، والانتماء إليه، والارتباط المصيري العضوي معه. ويتوج الهرم في النهاية بـ(تحقيق الذات)، ولا يحققه إلا خمسة بالمائة من الناس. وهناك ما يشبه ذلك في الطرح القرآني، الذي جاء في مثل أهل القرية من آخر سورة «النحل»؛ أن أهل القرية حققوا شروط الصحة الكاملة عندما اجتمعت ثلاثة عناصر فيها هي: (الأمن الاجتماعي) و(الطمأنينة الفردية) و(الرزق الرغد)، وعندما كفرت حصل انهيار في هذا المركب الثلاثي، ليتحول إلى حالة (تلبس) مزدوج من الخوف والجوع. لنقرأ الآية على هذه النية: «وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون»، «النحل»، الآية: 112. وكلمات القرآن دقيقة، وأعترف بأنها لم تتكشف لي بسهولة لولا مفاتيح علم النفس، فيجب التفريق بين كلمتي (الأمن) و(الطمأنينة)، فالأولى هي (أمن اجتماعي) والثانية (طمأنينة فردية روحية). وأظن أنني أمسكت بالمفتاح في فهم النكد النفسي في الغرب مع كل ظروف الرفاهية التي فيها يستحمون؛ فهذا المركب الثنائي (الحصانة ضد الخوف والجوع) هو شرط جامع، ولكنه غير مانع لتحقيق الحاجيات الإنسانية الكاملة، كي يستوي هرم الحاجيات الإنسانية على سوقه تماما. إن شرطه الناقص هو تحقيق هذه (الطمأنينة) التي طلبها إبراهيم عليه السلام في معاينة قيام الموتى إلى الحياة، (أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي). وحواريو عيسى في منظر المائدة وهي تتنزل عليهم، «وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا»، وهي ذلك المذاق التي يشعر بها المؤمنون بذكر الله «ألا بذكر الله تطمئن القلوب»، وهي حالة النفس الراضية المرضية عند استقبال الموت وتوديع الحياة الدنيا، «يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية». وهي الحالة التي حام حولها ودندن «ماسلو» في محاولة تجلية هذا البعد الجديد في حاجيات الإنسان. والآن كيف يبدو هرم الحاجيات الإنسانية في العالم الإسلامي؟
وبمقارنة بسيطة نرى في الوقت نفسه أن هرم سلم الحاجيات الاجتماعية عندنا مزعزع لا يتمتع بالصلابة والتماسك الداخلي، فالإنسان المسلم اليوم بكل أسف ينتسب إلى عالم جاهل فقير مزدحم خائف غير آمن على رزقه وغده، عاجز عن حل مشاكله، وإذا كانت بعض الجزر عائمة فوق بقع طفيفة للزيت هنا وهناك، فهي تدين برفاهيتها وخلاصها من قبضة المعاناة ليس لقوة ذاتية، بقدر الصدفة الجيولوجية وحاجة مصانع العالم الغربي وسيارات العالم إلى هذه المادة، التي لن تدوم كما قال القرآن: «ما عندكم ينفد وما عند الله باق». إن قصة دول النفط وسفاهة التبذير، تذكرني بقصة الأصمعي والغلام حين عرض عليه ألف دينار على أن يكون أحمق؟ كان جواب الفتى الذكي: لا يعماه أضيع المال وأبقى أحمق؟
وهذ الكلام أي اضطراب ميزان العدل في العالم يفسر أيضا طرفا من حالة الهلع المسيطرة على العالم؛ وليس من عنوان معبر أكثر عن حالة الخوف التي يعيشها العالم كما نشرته مجلة «دير شبيغل» الألمانية على صفحة الغلاف الرئيسية «ثمن الخوف Der Preis der Angst». وهي حالة العالم اليوم بعد أن دخل الخوف أركان المعمورة الأربعة، وكما يقول «نعوم تشومسكي» في كتابه «ردع الديمقراطية»، عالم الألسنيات الأمريكي والسياسي المخضرم: إن الجهد ينصب على إرهاب الأفراد، وأما الحديث عن إرهاب الدول فكان الكلام عنه حجرا محجورا. وهو ما يذكر بقصة الإسكندر والقرصان، حين ألقي القبض عليه، وبدأ الإمبراطور في توبيخه كيف يزعج البحر، فأجاب الشقي: أنا أزعج بمركب فأسمى قرصانا، وسيادتكم تنهبون العالم بالأساطيل فتسمون بالإمبراطور! وهذا هو حال الأباطرة الجدد في العالم والإرهابيين الصغار. ولكن لماذا كل هذا الخوف؟ هنا لا يفهم وجود الخوف إلا بغياب الأمن، ولن ينعدم إلا من غياب العدل، وباجتماع العدل والأمن تتولد الحريات، ويزول الخوف تلقائيا. الخوف كما نرى مربوط بـ(فقد الأمن)، وفقد الأمن بدوره مصدره (ضياع العدل)، ومن العدل والأمن يتشكل المثلث (العدل ـ الأمن ـ الحريات).
وهكذا فالحريات بكل أنواعها من التنقل والتعبير والاجتماع والسفر والكتابة هي وليدة الأمن، والأمن بدوره يتولد من العدل، وهكذا فالعدل هو دينامو الوجود، وباعث الحضارات، ودم الدول، وروح التاريخ، ومحيي النفوس، وهو أمل المتعبين في الدنيا أن يكون نصيبهم الكامل يوم القيامة فلا ظلم اليوم.
واختصر القرآن المسألة في نصف آية على لسان إبراهيم الذي أوتي الحجة، حين خاطب المشركين: «الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون»، فهنا نرى أن الظلم يولد الخوف، وأن العدل يعطي الأمن الاجتماعي، وأن روح السلام تمنح لصاحبها التحرر من الخوف، وأن العنف يورث الخوف. وبذلك كان (العدل) رحم الأمن، وكان (الأمن) سبيل الحريات جميعا. وما كل الإرهاب في العالم والخوف إلا بسبب ضياع العدل. وحين نام عمر تحت شجرة ورأسه على صخرة بدون حراسة؛ فبسبب العدل؛ واستحق على ذلك لقب الفاروق.
نافذة:
الحريات بكل أنواعها من التنقل والتعبير والاجتماع والسفر والكتابة هي وليدة الأمن والأمن بدوره يتولد من العدل وهكذا فالعدل هو دينامو الوجود وباعث الحضارات