جدلية الجهاد والقتال في سبيل الله
في رمضان من عام 1436هـ (الموافق يونيو ـ يوليوز 2015م) تم قتل النائب العام في مصر (هشام بركات) بنسف سيارته، كما قتل 37 سائحا في شاطيء سوسة السياحي في تونس بين بريطاني وفرنساوي وألماني، مما دفع الاستخبارات الألمانية إلى القدوم إلى تونس للاشتراك في التحقيق في ما وقع؟ وفي ليون في فرنسا حاول أحدهم تفجير مصنع للغاز ثم عثر على رأس رجل معلق على سلك تبين أنه رأس رئيس من قام بالفعل؟ وقبل هذا قام شاب سعودي كنيته القباع بتفجير نفسه في مسجد للشيعة فأخذ معه إلى العالم الأخروي 27 شخصا قتلا و222 بين مجروح ومعطوب ومعاق؟ وفي كوباني (عين العرب) في سوريا تسلل مقاتلو تنظيم «الدولة الإسلامية» بثياب مموهة من مقاتلي الحماية الكردية؛ فلما كانوا في وسطهم بدؤوا بقتلهم فحققوا ضربة صاعقة للتنظيم الكردي بقتل مائتين من الشباب كانت الحياة في انتظارهم فأصبحوا من عالم القبور، والمسلسل مستمر فما حصل في ليون في فرنسا سبقه قتل صحفيين في باريس في مؤسسة «شارل إبدو» التي دأبت على السخرية من النبي (ص)، كما أن حادثة تونس سبقها قتل أجانب أيضا في مارس من عام 2015 في فندق فقتلوا 21 ضحية. أما في سوريا فمازال بشار البراميلي يحاول تنظيف سوريا من الإرهابيين، فكانت نتيجة العملية التي يقوم بها من التطهير مايذكر بحادثة الكوماندو المصري أيام السادات، حين حاولوا تحرير الرهائن من طيارة مختطفة، فهلك في المعمعة قتلا بين ضرب الرصاص بين المختطفين ورجال الكوماندو المصري معظم الركاب، ما جعل البعض يعلق على الحادثة في صورة نكتة: «ماهو أسوأ من الوقوع رهينة في طائرة بيد مختطفين»؟
الجواب أن يأتي كوماندو مصري لتخليصك؟
كل هذه المقدمة أردت بها الوصول إلى مشكلة هي من أفظع المشاكل التي تعيق عملية البناء في العالم الإسلامي؛ أعني مفهوم الجهاد في سبيل الله.
ومن يراجع القرآن بدقة ينتبه إلى أن الجهاد غير القتال، فهذه واحدة فوجب التفريق، أما القتال في سبيل الله بمعنى استخدام العنف باستخدام القوة المسلحة، فقد وردت في القرآن الكريم بكلام صريح «القتال في سبيل الله».
الأولى جاءت مثلا في سورة «العنكبوت»: «والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا». وفي سورة «الفرقان»: «فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا».
هنا نرى أن الجهاد هو عنصر نفسي، وليس فيه استخدام العضلات والسيف والمدفع؟ وهو يعني استفراغ الجهد أي استجماع الطاقة الروحية لتمثل الإسلام والتشبع بالإيمان.
وربما كان الحديث مهما كانت قوته مفيدا في هذا المعنى رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر (يضعفه البعض)؟ حين رجع نبي الرحمة (ص) مع أصحابه من إحدى المعارك. أو ذلك الصحابي الذي سأله عن الجهاد فيم يجاهد؟ فقال جاهد في أبويك، ربما لأنه كان يعلم أن الرجل قد يكون مقاتلا ناجحا ولكنه أخل بعلاقته مع أبويه. ومنه أيضا ليس القوي بالمصارعة والعضلات (الصرعة) ولكن من يضبط نفسه عند الغضب. ومنه سيل من الآيات في الاتجاه نحو: «والذين إذا ماغضبوا هم يغفرون». أو ما جاء في سورة «الرعد»: «ويدرؤون بالحسنة السيئة». أو ما جاء في سورة «فصلت»: «ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم».
الآن نأتي إلى نقطة تعتبر أيضا مشكلة، وهي في الدفاع الفردي وتفريقه عن العمل السياسي وأسلوب تغيير المجتمع، ثم أين تأتي قصة ولدي آدم حين فضل أحدهما أن يموت قتيلا ولا يقتل أو يدافع عن نفسه؟
أين إذن يأتي القتال في سبيل الله عسكريا وبالقتال المسلح؟ بكلمة أخرى ماهو أسلوب تغيير المجتمع سياسيا؟ هل يتم بالقتال المسلح بثورة شعبية أم انقلاب مسلح أم اجتياح عسكري؟ كما حصل من قوات «الناتو» في ضرب القذافي تخليصا للشعب الليبي من سفاح أشر؟
المتأمل في سيرة المصطفى (ص) يرى وضوحا ونقطة تحول هامة في استخدام القوة المسلحة. وفي السيرة نعرف أن الرسول (ص) جاءته مجموعة هامة من رجال الأوس والخزرج، وهما أهم قبيلتين في يثرب (اسم المدينة المنورة قبل هجرة رسول الرحمة (ص) إليها). في الحج جاءته مجموعة تطلب منه أن تستخدم القوة المسلحة «مرنا فلنمل على أهل مكة بأسيافنا»، قال (ص): «لم نؤمر بقتال».
في هذه اللحظات جاء عمه العباس ووقف على رؤوس الشخصيات الهامة من يثرب، وقال: يا قوم الرجل هنا في حماية، فإذا جاء إليكم فكونوا واضحين أن الأمر جد وليس بالهزل فسوف تقاتلون العرب (بمامعناه)؟ هز القوم رؤوسهم وقالوا نعرف ذلك. وهو الشيء الذي كرره رسول الله (ص) في أول معركة بدر حين خرج للقتال المسلح، فكان يردد: أشيروا علي أيها القوم؟ فلما كرر قال له الأنصار: كأنك تقصدنا يارسول الله؟ قال: نعم أنتم عاهدتموني على الحماية في المدينة ونحن الآن في الصحراء وقد لايرجع منا مخبر؟ قالوا بصوت واحد: لقد تعلمنا الكفاية من دروس القرآن ولن نكرر قول بني إسرائيل اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، بل نقول لك يامحمد لو أردت الذهاب لأقصى الأرض ماخذلناك.. (ربما جاءت كلمة برك الغماد أو اليمن أو شيء من هذا القبيل). هنا تهلل وجه رسول الله (ص) وقال: أبشروا والله كأنني أرى مصارع القوم، وهو مانتج من تلك المعركة الفاصلة التي سماها القرآن الفرقان.
الآن حديثنا أن الرسول (ص) طوال فترة الدعوة كان حريصا على شرح فكرته والتأكد ممن حملها أن يكون واضحا لديه إلى أين الرحلة ستنتهي؟ والمهم أنه ليس ثمة قتال وحمل أسلحة (قتال مسلح)؟ والسؤال لماذا؟ والجواب بسيط ليس من الناحية الشرعية فقط، كما يحاول بعض الفقهاء في تقسيم الجهاد إلى طلب ودفع، بل بمعنى أنثروبولوجي اجتماعي أن الجنس البشري حين اخترع الدولة كان يهدف منها وظيفة جوهرية هي توفير (الأمن) للأفراد كي تصبح الحياة متحملة من جهة ومن أجل بناء الحضارة، مقابل احتكار القوة المسلحة بيد الدولة.
رسول الرحمة (ص) كون أمة وبقي عليه نقل هذه الخميرة إلى إطار سياسي يسلم له؛ فيكون المجتمع والدولة والنظام السياسي بعدما تشكلت الأمة. بعدها ولأن وظيفة الدولة توفير (الحماية) مقابل احتكار القوة المسلحة بصورة شرعية؛ فقد تحول نبي الرحمة من (داعية ونبي) إلى ملك ومقاتل كما فعل داوود وسليمان، بعد تشكل الدولة.
علينا أن ننتبه إلى التفريق أيضا بين أمرين جوهريين في فترة بناء المجتمع، أنه لا قتال مسلح على الإطلاق، ويجب عدم مجابهة (الدولة) بقتال مسلح وتفجيرات كما استفتحنا به حديثنا. قد تحدث حوادث فردية من عدوان لص ومجرم نحاول ردعه وقد يقتل أحدنا في هذه المحاولة، ولكن الحديث عن التغيير السياسي هو بناء الأمة والدولة والمجتمع سلميا؛ فهذا هو عمل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مهما طال الوقت وكثرت التضحيات.
طبعا النموذج السريع والمكتمل والكامل كان في تجربة نبي الرحمة (ص) بفترة 23 سنة، ولكن المسيحية (التي هي الإسلام في نسخة رومانية)، أخذت عشرة أضعاف هذا الوقت؟ لنرى هذا في قصة أصحاب الكهف «لبثوا في كهفهم 300 سنين»؟ أما الكلفة المخيفة فلنقرأها في سورة «البروج» وحرق مجموعات كبيرة من الناس النار ذات الوقود «إذ هم عليهم قعود وهم على مايفعلون بالمؤمنين شهود».
رسول الرحمة (ص) العقل الاستراتيجي لم يقاتل قط في مكة، أما في المدينة فشن أكثر من عشرين غزوة، وأرسل أكثر من ثمانين سرية، من أجل بناء الدولة المركزية وإيقاف تقاتل العرب بين بعضهم بعضا بوجود دستور ودولة مواطنة.
هنا نرى صيغة جديدة للإسلام السياسي أي دخول الناس في الدين بدون إيمان به (سورة «الحجرات»: «قالت الإعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا».
في مرحلة مكة لاقتال مطلقا. في مرحلة المدينة شن القتال تحت صورة (رفع الظلم عن الإنسان أينما كان ومهما دان وليؤمن بعدها أو ليكفر). كذلك إذا حدثت أن بدأت مظاهر الانهيار في هذا المجتمع الموحد أن تعاد صيانته سلميا وليس بالقتال.
أنصح القاريء بقراءة كتاب «الأخلاق والحرب» من سلسلة «عالم المعرفة» العدد 414، لمؤلف عسكري وفيلسوف (ديفيد فيشر) الذي يحاول الوصول إلى هذا المفهوم، الذي نتحدث عنه، لماذا شن رسول الرحمة (ص) الغزوات والقتال المسلح تحت مفهوم الحرب العادلة. ووضع لها أربعة شروط: (التطهير العرقي ـ الإبادة الجماعية ـ قوة مخولة ـ نية حسنة ـ ومن أجل قضية عادلة).
أقرب مثل على ذلك الرهينة في كندا حيث لم يكن بد من قتل المختطف حتى تتحرر الرهينة، أي ما يشبه عمل الدفاع المدني والإطفائية في المدنية، أو حمل مجنون السلاح، وبدأ بقتل الناس كما في تونس في سوسة؟
أو بالنموذج المخيف في رواندا بقتل 800 ألف في ثلاثة أسابيع بالأسحة البدائية من خنجر وساطور وبلطة.
علينا أيضا أن نفهم الإطار التاريخي لعلاقات الدول في تلك الأيام، أنها كانت تقوم ليس على قوانين الأمم المتحدة الحالية في إطفاء الحرب أينما كانت، وأحيانا رسم تحالفات دولية للتدخل في دول أخرى.. بل كانت علاقات الدول تقوم على حروب والتهام الدول القوية الضعيفة.
نظرة بسيطة في صعود الإمبراطوريات وهبوطها حتى لو كانت عثمانية إسلامية، تقول لنا إن التوسع كان هو القاعدة بالتمدد بل والموت أيضا. فشهوة التوسع هي من قبض روح الإمبراطوريات.
وهذه الروح موجودة حتى في العصور الحديثة كما حاول نابليون وهتلر وستالين بسطها على أوربا، وجنكيز خان من قبل والإسكندر وهانيبال وروما؛ فهذه كانت سيرة التاريخ.
ولذا فإن التمدد الأموي أو العباسي أثناء القوة الإسلامية أيضا غير مبرر بالفتح الذي كان يسمى إسلاميا وهو في عمقه استعماري يحمل داء الأمم. ومنه أيضا نفهم كيف أوقف (عمر بن عبد العزيز) الخليفة الأموي حمى الفتوحات، وقال: لقد أرسل الله محمدا هاديا ولم يرسله جابيا؟ خاصة حين تتناهى إلى سمعنا منع دخول أناس في الإسلام حتى يستمروا في دفع الجزية، وهو خطأ في فهم الجزية والإسلام معا.