شوف تشوف

الرأي

جدل التنوير والحداثة

«الروح لا تكون روحاً حتى تتعرف على نفسها في التاريخ»
هيجل
هذه النشوة الفكرية للتنوير، هي ما تشتاق الروح للابتهاج بها، لأنها نعمة النعم، تحرر الإنسان من أغلال العبودية، وتمنحه وسام الحرية، فبدون التنوير تظل جدلية العبد والسيد ثابتة في الزمان، لا يستطيع شروق شمس جديد أن يحركها، وتظل الأرواح منفصلة عن ماهيتها، عابرة وشقية، كدمية سياسية، تستثمرها السلطة بالأساطير والخرافات، إلى أن يأتي التنوير ليفجر هذه الجدلية، ويبدأ الصراع من أجل الحرية. إذ لاشيء يضاهيها في الوجود. إنها شعرية الوجود. فما هي إذن جدلية العبد والسيد؟ وكيف تبدأ؟ وكيف تنتهي؟ ومن يجعلها فرجة على مسرح المطلق؟ وما أهمية التنوير في سيرورة التاريخ؟ وما علاقة التنوير بالوعي الذاتي والوعي الشقي؟ ألم يكن شعار التوير هو أن المستقبل الذي نريده يوجد في الحاضر؟ ومن يحرم الناس من التنوير باسم الماضي المقدس؟
لكم تمنيت أن أسافر على سفينة الجدل الهيجلي الذي ينطلق من ظاهريات الروح ليفجر أغلال العبودية، عندما يختار مفاهمه بأناقة باهرة، ويخلق منها القدسيين، ويجبرها على الصراع من أجل تحرير العبد من بطش السيد الذي تحول إلى مجرد رغبة تستغل الشيئ وتشيئ العبد، ذلك أن: «السيد متصل اتصالا غير مباشر بالعبد عن طريق الوجود، ذلك قيده الذي أخفق في تجريد نفسه منه». فما هو إذن هذا القيد الذي لا يستطيع العبد تحرير نفسه منه؟ ألا يكون هو الجهل الذي يحكم عليه بالوعي الشقي؟ بل كيف يصبح بإمكاته الإنعتاق دون أن يكتشف قارة الوعي الذاتي؟ وما هي وسيلة النقل إلى هذه القارة؟ هل هي التنوير؟ أم الحرية؟
ما أشقى الوعي المستعبد، لأنه يكون محروما من الحقيقة، ما دام أنه يتمنع باعتراف خال من المساواة، لأن السيد يسيطر على الوجود، ويستعبد الإنسان بالعمل: «فالسيد في هذا القياس هو القوة التي يندرج تحتها العبد»، وبخاصة وأن العبد مجرد وعي مغلوط، يتوسط بين الشيء ومتعة السيد: «القضاء على الشيء والارتواء في متعته». ولذلك فإن طبيعة هذه العلاقة الجدلية مناقضة للحرية الطبيعية، إذ نجد السيد قد وسط العبد بين الشيء وبينه، مستمتعا به استمتاعا صرفاً، لأنه تمكن من إفراغ محتوى وعيه الذاتي، هكذا يمسي الوعي المجانب للماهية، عبارة عن شيئية الشيء إلى أن يكتشف نفسه في النعي المطلق، بيد أن هذه اللحظة يبدعها العمل الشاق، حيث تستيقظ الروح من سباتها، إذ بدلا في أن ترى العبودية حقيقتها في السيادة، يدرك وعي العبد نفسه في العمل، بأنه رغبة مكبوحة. بيد أن الخوف يسيطر عليه، فما العمل إذن؟ بالعمل وحده يستطيع العبد أن يتعرف على ماهية الشقاء، ويستطيع أن يدرك أن الحقيقة المنبثقة عن الحس المشترك مناقظة للوعي، مجرد خليط مربك من الآراء الزائفة التي يمررها السيد عبر السلطة والمؤسسة الدينية، ولذلك فإنها تشكل أداة استلابه، لأن الاعتقاد في العبودية يسبق الانتماء إليها، والحال إنها لخبرة سيئة ومؤلمة: «أن ترى الجهل والغِلظة التي لاشكل لها ولا طعم، مع قصورهما وعجزهما عن تركيز الفكر ولو على قضية واحدة مجردة، من المؤلم أن يدعيان أنهما يعبران عن حرية الفكر والتسامح». ويتحمسان للحديث عن كرامة وحقوق الإنسان، مع العلم أنهما يحاربان الحقوق الفردية والاختلاف الفكري، ويقمعان العلم والمعرفة باسم الحق الإلهي.
يا لها من مفارقة سوفسطائية ظاهرها معلوم وباطنها ملغوم، فمن يدافع عن دولة العبيد ويمرح بشقائهم، لا يمكنه أن يتعرف على ماهية الإنسان الإنساني، ويحكم عليه بالحرمان من الحق في الحياة، ويجرده من كرامته وكل حقوقه، ولذلك فإنه يصنع حجابا سلفيا بين الإنسان والأنوار. ومع ذلك فإن ضوء العلم يخترق هذا الحجاب، وبعبارة هيجل: «إن حقيقة العلم أشبه بالضوء الهادئ الذي ينير كل شيء ويبعث البهجة والسرور في كل شيء. إنه أشبه بالدفء الذي ينعهم به الأشياء متآنية تزدهر وتكشف عما تنطوي عليه من كنوز دفينة باتساع الحياة». أما الحقيقة الخطابية أو السوفسطائية، فإنها تتهكم وتسخر من الإنسان. وتحطم فيه إرادة القوة وإرادة المعرفة، إن لم تحوله إلا حطام تتلاعب به الآراء المخادعة ولعل هذا الوضع هو الرائج عندنا الآن.
لقد أصبح الزمان ضربا من البلاغة المخبولة، التي تمارس العنف الرمزي على الأبرياء، وتحاصرهم بالقصور الفكري، وتهددهم بالجوع، والموت. بواسطة فقهاء الحقائق البيانية التافهة التي تدعي علمها للغيب، وتنشر الخوف من الوجود، والرعب من الموت. والحال إن الشعب يريد الحياة، والسلطة الوسطوية تحرصْ على الموت. فلا بد إذن من الهروب من هذه الشباك التي تصطاد الأرواح وتخدرها بتلك الأفكار الدوغمائية، لتبعدها عن الوعي الذاتي، وتظل تمرح بالوعي الشقي. لكن هل بمجرد ما ينصهر الوعي الشقي في الخوف المطلق يحقق كماله في الوعي الذاتي؟ وما هي المراحل التي يقطعها الوعي من أجل تحقيق ذاته؟
ليس من الضروري أن يظل العبيد عبيداُ والسادة سادة، بل ينبغي أن يتحول الكبار إلى صغار، والصغار إلى كبار، ذلك أن جدلية التاريخ تحكم على المجتمعات الوسطية بالانهيار، وما دام أن كافة الشعوب المتحضرة تشعر بالخجل عندما نتحدث عن مجتمع العبيد والسادة عندنا، فإنه حان الوقت لتفجير هذه البنية التقليدية وهدم جميع التقاليد المعادية للنزعة الإنسانية، إذ لم يعد يهمنا أن يعيش الحكام الطغاة البدح والشعب يتألم من الجوع، لأن هذا الوجه البشع للسياسة المتوحشة، سياسة الأعيان والإقطاعيين، والرأسماليين تمزق العدالة الاجتماعية إلى أشلاء، لأن مبدأ اللذة عندهم يبتلع مبدأ الواقع، الذي يتم قمعه بواسطة الشعب نفسه، فالشعب دائما ينتظر من يحرره، لأنه لا يعلم بأن: «السلطة لا يمكن تدميرها إلا عن طريق تناقضاتها الخاصة، وليس عن طريق حركة اجتماعية»، بل إن المثقف الملتزم بقضية المجتمع هو الذي يقوم بفضح السلطة، وإظهار تجاوزاتها القمعية، والشاهد على ذلك أن ماركيوز قد تنبه بأن: «النزعة الثورية غريبة عن الديمقراطية، لأنها تخشى السلطة المطلقة». ولذلك فإن النقد التنويري للهيمنة السياسية يحرص على بناء السيادة الشعبية التي تكون مدخلا للديمقراطية، على الرغم من أن عدوانية الرأسمالية أضحت تهدد النظام السياسي في الديمقراطيات الحديثة، لأنها ساهمت في ظهور «الرفض الكبير»، والاحتجاجات المتتالية، فهل يتجه مجتمع العبيد إلى مجتمع البروليتاريا؟ وما علاقة البنية الاجتماعية التقليدية التي تتأسس على الأضرحة والأولياء بالبنية الاجتماعية في الديمقراطيات العريقة؟ ومن المسؤول على هذا التأخر السياسي والفكري؟
أسئلة مزقها ملل التكرار، بيد أن السلطة مصابة بداء الصمم، والمجتمع يولد ميتاً إيديولوجيا، وبخاصة وأن السياسة والعدوانية يختلطان في السلطة المسيطرة على الدولة، التي تحولت إلى جبروت يحدث الرعب في قلوب المواطنين، بدلا من معالجة إشكال الثغرة الطبقية بين البورجوازية والبروليتارية، انطلاقا من مفهوم التقدم الاقتصادي والسعادة السياسية. وبما أن الطبقة السياسية متعفنة، لا يهمها سوى الاغتناء الفاحش، فإنها قد دمرت تلك العلاقة الروحية بين السياسة والأخلاق، نظرا لكونها لم تنم في أحضان العقلانية، بل تلقت تربيتها في مدارس تقنية جامدة وأداتية والتي تؤهلها للصراع داخل السوق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى