فاطمة ياسين
منذ إعلان الدولة عام 1948، حرصت إسرائيل على عزل نفسها عما يحيط بها، وتبدو الفكرة امتدادا لمقولات الشعب المختار المميز. وفي حرب 1967، سيطرت إسرائيل على مزيد من الأرض، لتشكيل ستار واق لها عن جيرانها من الدول العربية. ثم كررت الفكرة ذاتها على الحدود مع سوريا، عندما أصدرت قرارا بضم الجولان السوري الذي شكل لها جدارا جغرافيا عازلا تشرف به على السهول السورية، ويعطيها ميزة إنذار مبكر طبيعي تختفي خلفه. تكررت الحالة في جنوب لبنان، حين أوجدت كيانا شبه عسكري على الأرض اللبنانية بالجنوب. ولم يكن وضع ما سمي غلاف غزة غير تكرار للحالة الجغرافية الأمنية نفسها، بفارق أن الغلاف يقع داخل إسرائيل التي تسمى أراضي 48. آمنت العقلية العسكرية والسياسية الإسرائيلية بفلسفة الفصل، وحاولت أن تحتفظ بعرض كاف يحميها من المفاجأة. ويمكن اعتبار الجدار العازل الذي بني حول الضفة الغربية جزءا من هذا التفكير. ولعدم توفر الأراضي الكافية ولتداخل المستوطنات الإسرائيلية في الضفة، اكتفت إسرائيل ببناء جدار خرساني عال يؤمن لها عزْلا من نوع ما. كانت إسرائيل تلجأ إلى تفريغ المنطقة من السكان، قبل أن تزرع كيانات عسكرية موالية لها، أو تقوم بإدارتها عسكريا بنفسها وتستخدمها في دور منطقة عزل أمني وإنذار مبكر.
من الممكن أن تتعرض غزة حاليا للحالة نفسها، وتطبق إسرائيل نظريتها في العزل على القطاع، فقد تقلص عدد سكان محافظتي غزة وشمال غزة بشكل كبير، بعد عملية التهجير التي أمرت بها القوات الإسرائيلية، وبقي ما يقارب من نصف سكان غزة في منازلهم نحو الوسط والجنوب، ورافقت موجات الهجرة عملية تدمير كبرى طاولت ربع الوحدات السكنية القائمة في المحافظتين المستهدفتين. كان عدد السكان في محافظة غزة قد بلغ عشية بداية القصف الإسرائيلي 650 ألف نسمة، ما يجعلها أكبر مدينة يسكنها فلسطينيون في فلسطين والعالم، فيما بلغ عدد سكان محافظة شمال غزة حوالي 300 ألف. غادر الجميع المنطقة تاركين وراءهم خرائب غير صالحة للحياة، فيما يبدو أنه تمهيد ذو طبيعة عسكرية لإتاحة الفرصة للجيش الإسرائيلي أن يدخل غزة من هذه المنطقة بالذات، بعد إفراغها، لتوفير دخول آمن للوحدات العسكرية، حيث ستُواجه منطقة خالية من المقاومة، وقد يكون هذا الدخول وشيكا، فقد خاطب وزير الدفاع الإسرائيلي، غالانت، جنوده وحثهم على الاستعداد لرؤية القطاع من الداخل، وحذرهم بأن الحرب قد تكون طويلة، ما يعني أن حالة عسكرية ستسود مساحات واسعة من القطاع، وستبقى هذه الحالة سائدة مدة طويلة، وكأن الوزير الإسرائيلي يمهد إعلاميا لدخول جيشه إلى شمال غزة ليبقى هناك فترة طويلة.
لا يتجاوز عرض قطاع غزة من ناحية الشمال عشرة كيلومترات، وهي مسافة يمكن أن تطاولها مقذوفات مدفعية من عيار مائة مليمتر، وتستطيع إسرائيل أن تسيطر من ناحيتي الشمال والشرق، وهي تسيطر فعليا على المنطقة من ناحية البحر، ما يعطيها إمكانية الإحاطة بمنطقة شمالي القطاع من ثلاث نواح، ولا تبقى إلا واحدة، وهي الجهة التي طلبت إسرائيل من سكان الشمال التوجه إليها. ويحمل التركيز على منطقة الشمال طابعا انتقاميا في الوقت نفسه، فقد طاولت المستوطنات المحاذية قطاع غزة من الشمال: زيكيم، سديروت، ناحل عوز، وكيسوفيم، ونتيفوت، هجمات حركة حماس مباشرة بشكل مؤثر، ويرشح ذلك كله محافظتي غزة وشمالها لتكونا منطقة عازلة تطبق عليها إسرائيل نظريتها في الاحتماء.