بريكي
كان موعدنا استراحة العاشرة، اجتمعنا كسرب حمام ساذج بوزراتنا البيضاء، نحمل فوق ظهورنا حقائب عملاقة تزدحم داخلها كتب حصص الصباح والمساء وننتظر إعلان الانطلاق. الجو معتدل والشمس أرخت حبالها فمنحت قلوبنا المرتعبة بعض الدفء، الأساتذة تجمعوا في قسم يتوسطهم إبريق شاي كبير، وتركوا لنا المجال لتقرير المصير. لا يتجاوز عمر أكبرنا الخمس عشرة سنة، بعضنا لا يعرف لأي غرض تجمهرنا أمام باب الإعدادية، وبعضنا يثيره الصخب فيرتفع حماسه لذروته. أدفن رأسي وسط الرؤوس وأحدثهم عن سبب المظاهرة الحاشدة، كانت مظاهرة أطفال اعتقدوا لوهلة أنهم بالغون فقرروا الاحتجاج. يفتح رفاقي أعينهم وأفواههم أمام اندفاعي وكلماتي المقتبسة من نشرات الظهيرة وحصاد الثامنة فأحلق بحديثي دون رادع. أعرف من الأخبار أكثر مما يعرفون فيمنحني ذلك سطوة ونشوة، أشرح لهم ما يقع في العراق، وكيف قررت أمريكا الظالمة اجتياح بلد مسلم لمجرد تخمينات غبية. أحدثهم عن أسلحة الدمار الشامل التي لا يعرف أحد مكانها، عن صدام الذي اختفى وعن وزير إعلامه الذي يظهر ليطمئننا فلا نزداد إلا توجسا. عن الفوضى التي ستحصل بعد الحرب، عن الأطفال والنساء والرجال المعذبين بلا سبب، عن طفولتي التي لوثتُها بأخبار العدوان وجديد القتل والدمار، عن الحزن الذي انهال علي مبكرا جدا غير مكترث بعمري ولا برغبتي في عدم المعرفة.
أشحن البنات بمآسي أطفال العراق فتنهال الدموع من أعينهن ويلعن الغرب والشرق والحكومات، يحملن أكفهن ويتوجهن نحو السماء يرسلن الدعوات والصلوات بلا انقطاع.
مزجت طفولتنا بالصراعات والمعارك والحروب وويلاتها وبيننا وبينها أبحر وجبال، تعلمنا أننا وحيدون جدا أمام مدافع المستعمر والعدو، حتى وإن بكينا معا ودعونا معا وصلينا معا.
يعلو صوت مراهق بالهتاف والتكبير ويدعونا للانضمام والالتحاق به. لقد تقرر الخروج بمظاهرة مستعجلة تنطلق من باب الإعدادية وتجوب شارعا رئيسيا ثم تتوقف في ساحة عامة نكون بها قد عبرنا عن استيائنا وغضبنا وسخطنا على العالم. نردد شعارات لا نفهم نصفها، ونرفع أيدي تلوح في السماء مرة بشارة نصر لا نحلم به ومرة بقبضة صغيرة تتوعد عدوا هلاميا بالويلات. قطعنا نصف الطريق يغرقنا الحماس والاندفاع، ويسكرنا شعور الانتماء نشوة الصراخ في الشارع دون خجل وخوف. الأعين تلاحقنا والباعة يسخرون من منظرنا والأمهات يحاولن العثور على أبنائهن بين الصفوف المنسابة وسط الشارع كماء نهر يعرف جيدا طريقه نحو المصب.
الساحة فارغة تنتظرنا والرؤوس تتزايد من حولنا يستفزها الفضول. يقفز قائد الثورة الصغيرة غاضبا ويعتلي سورا آيلا للسقوط يخطب فينا معربا عن قلقه وحزنه، عن فشل العرب في نصرة إخوانهم وعن تآمر الكفرة ضد هذا الدين الجميل، عن النهاية التي ستكون جحيما مستعرا يبتلع أعداءنا ومن يواليهم، أصواتنا تهتف مكبرة بعد كل جملة وفخر جميل يحتل صدورنا بهذا الإنجاز الكبير.
ضجيج غريب يتبادر صداه لآذاننا وتدافع مريب يحتل صفوفنا، يترجل القائد عن سوره ويقفز بعيدا محلقا كغراب مذعور فألتفت يمنة ويسرة لفهم ما يحصل. رجال الأمن بألبسة خضراء وزرقاء وعزم على تفتيت ثورتنا يتوجهون نحونا. ينتعلون أحذية مرعبة ويحملون عصيا سميكة. ينفض الجمع من حولي، ويلتحق الكل بمكان آمن يقيه صفعة شرطي أو لكمة عسكري، فأجري كما فعل غيري مغشى علي لا أعرف إلى أين.
بين الدروب أركض فيزداد ثقل حقيبة ظهري، وينساب العرق من وجهي والهلع من قلبي فألعن الحرب وأمريكا والعراق وصدام والأخبار. أحاول التوغل وسط الأزقة حتى أضلل الشرطي الذي يلاحقني، فأصطدم بآخر أضخم منه يشبه جارنا المحامي، نفس البطن المكورة ونفس الوجه المنهك. أقف أمامه على بعد خطوتين منكسرة مستسلمة أتمتم بكلمات لا معنى لها محاولة الاعتذار. ينظر مطولا داخل أحداقي ويصرخ كما يصرخ والدي بالضبط : آش كديري هنا؟ سيري تقراي.
أكف عن الركض والاحتجاج، أستنشق الهواء بصعوبة بالغة فأطرق باب بيت لا أعرف أصحابه متوسلة كأس ماء، أشربه بنهم بالغ كأني ما ارتويت أياما وليالي طويلة. أرتب هندامي وأحمل حقيبتي في يدي ثم أعود أدراجي للقسم راجية أن يكمل الأستاذ شرح المبيان الذي لا يستقيم فهمه داخل جمجمتي.