ثوار وعميان
هناك مقولة دائما ما أتوقف عندها تقول «شعب لا يقرأ شعب لا خير فيه».
القراءة كانت منذ خلق الله آدم وأرسل رسله وأنزل الوحي على خاتم النبيئين وكان أول أمر يرسله تعالى له هو اقرأ، هي الأداة الأساسية للفهم والمعرفة والرقي بالفرد والإنسانية.
عندما تهبط مؤشرات القراءة في مجتمع ما فهذا دليل على أن حالته الصحية ليست على ما يرام، فمؤشر القراءة مثل مؤشر تخطيط القلب، عندما يضعف يختل النبض وينهار الجسد.
عندما جاء مناضل في الحزب الشيوعي الصيني عند ماو تسي تونغ وطلب منه الإذن لكي يضحي بنفسه من أجل الشعب، شرح له ماو إنه عندما سيضحي بنفسه من أجل شعب أمي جاهل في غالبيته فإنه سيكون مثل ذلك الشخص الذي أضرم النار في نفسه لكي يضيء الطريق للشعب، سوى أن الشعب الذي ستضرم النار في جسدك لكي تنير له الطريق ضرير لا يرى، لهذا فتضحيتك ستذهب أدراج الرياح ولن يراها أحد ولن تفيد في شيء.
لذلك فقد كان أول شيء قام به ماو هو إعلان الثورة الثقافية التي فتحت عيون الشعب على القراءة والمعارف.
كثير من المناضلين الذين قادهم نضالهم إلى السجون والمنافي يؤاخذون على الشعوب تقاعسها في الدفاع عنهم عندما تلقي بهم الأنظمة في غياهب السجون وتصادر ممتلكاتهم وتشرد عائلاتهم.
وهم معذورون، فهم يجهلون أنهم عندما قرروا إشعال النار في أنفسهم لإنارة طريق شعوبهم إنما كانوا ينيرون الطريق للعميان، والعمى هنا طبعا بمعناه المعرفي والثقافي وليس العضوي.
عندما ألقي القبض على إيرنيستو تشي غيفارا من قبل وكالة الاستخبارات المركزية بمساعدة القوات البوليفية في مخبئه بعدما وشى به راعي أغنام، طرح أحدهم سؤال لماذا وشى برجل قضى حياته في الدفاع عنه وعن أمثاله من الفقراء.
لقد كان جواب الراعي بسيطا وبريئا وعفويا، قال : «كان صوت الرصاص في حروبه مع الجنود يروع أغنامي».
نهاية المقاوم المصري محمد كريم لم تكن أحسن من تلك التي لقيها تشي غيفارا، فبعد مقاومته الشرسة للحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون، واعتقاله تم الحكم عليه بالإعدام.
وقبل تنفيذ الحكم أحضره نابليون وقال له إنه لا يريد للتاريخ أن يذكره كقائد أعدم بطلا كان يدافع عن وطنه.
وأخبره أنه قرر أن يعفو عنه مقابل دفعه عشرة آلاف قطعة من الذهب تعويضا عن أرواح الجنود الفرنسيين الذين سقطوا برصاص المقاومة.
فقال له محمد كريم إنه يدين للتجار بأكثر من مائة ألف قطعة من الذهب، وطلب مهلة لتحصيلها منهم.
فكان محمد كريم ينزل إلى السوق كل يوم وهو مكبل في الأغلال مقتاد بأعقاب بنادق جنود نابليون، وكله أمل في أن أبناء شعبه الذين ضحى بحياته وحريته من أجل استقلالهم سيقفون إلى جانبه في محنته. وكم كانت مفاجأة محمد كريم عندما اكتشف أنه ولا تاجر واحد تطوع لمنحه المبلغ، بل إن العكس هو ما حدث، فقد سمع تأنيبا شديدا واتهامات تجعله السبب في ما ضرب الإسكندرية من دمار وكساد.
فرجع إلى نابليون مكسور الخاطر، والذي لم يكن أمامه سوى أن ينفذ فيه حكم الإعدام. وتقول الروايات إن نابليون قال له «ليس أمامي إلا أن أعدمك، ليس لأنك قاومتنا وقتلت جنودنا ولكن لأنك دفعت حياتك مقابل أناس جبناء تشغلهم تجارتهم عن حرية الأوطان».
إن كل من يتساءل عن سبب فشل كل برامج التحديث والتطوير التي خضع لها المجتمع المغربي، سواء الثورية منها أو تلك التي تبنتها الدولة، عليه أن يعود إلى الدراسة التي نشرتها المندوبية السامية للتخطيط حول استعمال المغاربة للوقت، إذ تبين من البحث الميداني أن المغاربة لا يخصصون سوى دقيقتين من وقتهم اليومي للقراءة.
ولو تعمق الباحثون أكثر وبحثوا في نوعية القراءة التي تشغل دقيقتين من وقت المغاربة لاكتشفوا أن جل هذه القراءات لا تخرج عن قراءة فواتير الهاتف والماء والكهرباء ووصفات الأطباء وعلب الدواء ورسائل الواتساب، دون أن ننسى طبعا قراءة اللطيف قبل مغادرة البيت في الصباح اتقاء للعين والحساد وقطاع الطرق وكل الشرور التي يتخيل المغربي أنها تتربص به عند عتبة البيت.
عندما نقرأ نتائج هذا البحث ونكتشف أن القراءة هي آخر ما يشغل بال المغاربة، نشعر فعلا بخطورة الأمر. خصوصا على مستوى تداول المعلومة والخبر، والتي تبقى غير متاحة أمام ملايين المواطنين بسبب عجزهم أو نفورهم من القراءة، فلكي تتلقى الأخبار والمعلومات والأفكار يجب أن تقرأ.
والذين يتحدثون عن تراجع انتشار مبيعات الصحف في المغرب، ويلامسون المشكل سطحيا عندما يعتقدون أن الأمر متعلق بتراجع القدرة الشرائية أو طغيان الصحافة المجانية، مخطئون على طول الخط، لأن تراجع مبيعات الصحف مرتبط بتراجع القراءة بشكل عام.
والقراءة في الدول التي تعرف قيمتها ليست مجرد هواية، بل هي إحدى أهم مسؤوليات الدولة، وإذا سألت رئيس الحكومة عندنا مثلا عن برنامجه لدعم القراءة فإنك لن تتلقى منه جوابا، لأن الحكومة ليس لها برنامج لمثل هذه المشاريع التي تنخرط في المستقبل.
وإذا أنت راجعت جميع مداخلات الوزراء واحدا واحدا فلن تعثر على إشارة إلى كتاب أو مقولة لفيلسوف أو حكمة لنابغة، وكل ما ستعثر عليه هو كلام خشبي سطحي فارغ من أي عمق، يكشف أن أصحابه لا يقرؤون سوى «الحسايف» في بعضهم البعض.
ولعل أكبر مظهر من مظاهر الجهل بدور المعرفة والقراءة في تقدم البلاد وازدهارها، هو تخصيص مليارات الدراهم لدعم صناعة سينمائية وطنية رديئة، تساهم في نشر الجهل والسطحية ومظاهر التغريب والمسخ الثقافي، وإغفال دعم الكتاب ونشر القراءة.
مع العلم أن دعم نشر أمهات الكتب وطبعها على نفقة الدولة يكلف أرخص بكثير من دعم مخرجين سينمائيين بالملايير لإنتاج أفلام لا يساهم بعضها سوى في نشر ثقافة سطحية وحوارات مبتذلة منقولة حرفيا من لغة «السوق» تحت ذريعة الواقعية السينمائية.
ولو أن الدولة وفرت ميزانيات مهرجان سينمائي واحد من تلك المهرجانات التي تهدر عليها أموال دافعي الضرائب سنويا في كل مدينة، وحولت ميزانيته لدعم مهرجانات لتشجيع القراءة ونشر الكتب، لكان أفضل. وعوض تقديم دعم بثلاث مائة مليون سنتيم لمخرج واحد لكي يصور فيلما لن يشاهده أحد آخر سواه، سيكون من المفيد تخصيص هذا المبلغ لطبع عشرات الآلاف من النسخ لمجموعة من الكتب وبيعها بثمن رمزي للعموم، وإهداء بعضها للمكتبات ودور الثقافة في الأحياء الشعبية، هكذا ستشجع الدولة الشعب على القراءة.
وكم يشعر المرء بالأسى والحزن عندما يقف في محطة للقطار ويتأمل عشرات المسافرين جالسين يطالعون وجوه بعضهم البعض عوض مطالعة كتاب أو جريدة. حتى أصبح منظر مسافر (أو مسافرة) وهو جالس يقرأ كتابا بانتظار رحلته في محطات المغرب أو حدائقه، شيئا نادرا يستحق تخليده بصورة تذكارية.
إن خلاص المغرب لا يوجد فقط في تشجيع السياحة ولا في تشجيع الاستثمار الأجنبي ولا في تشجيع الهجرة للرفع من أعداد جاليتنا المقيمة بالخارج، الخلاص يوجد في المعرفة، والمعرفة تبدأ بالقراءة، ومجتمع لا يقرأ محكوم عليه بالجهل، والجاهل يبقى طيلة حياته عبدا لمن يمتلك المعرفة.