تْمنية مـارْس
يونس جنوحي
الدعوات التي تلقاها الجميع لحضور الأنشطة الاحتفالية باليوم العالمي للمرأة، بالأمس، تبين أن العدد يتضاعف كل عام. وتتضاعف معه معاناة النساء وإقصاؤهن واستغلالهن. وربما هذه هي النقطة الوحيدة التي أصبحن يتساوين فيها مع الرجال الذين يتعرضون بدورهم للتهميش والاحتقار والاستغلال.
في الدول الفقيرة التي تُعرف بصناعة النسيج لصالح الشركات العالمية الكبرى، يتم استعباد النساء حرفيا، للاشتغال لأزيد من عشر ساعات يوميا في صناعة أغلى ماركات الملابس والأحذية الرياضية في ظروف لا إنسانية، وبتعويض يومي مُخجل لا يكفي لشراء وجبة من محل حقير للأكلات السريعة. ورغم ذلك، فإن هذه الشركات لا تتأخر في الاحتفال بالنساء، في دول أخرى لا يمكنهم فيها استعبادهن كما في دول العالم الثالث.
في المغرب، توجد نسوة لا يعرفن من مارس إلا أيام دخول الموسم الفلاحي، الذي قتله الجفاف هذه السنة، خصوصا في مناطق الجنوب. وعادة ما يحفظن أرض المنطقة التي ينتمين إليها، بحكم أنهن يقضين السنة كلها في حمل الحطب فوق ظهورهن المقوسة.
في شهر شتنبر الماضي، توفيت سيدة مُسنة في مدينة طنجة، يوجد ملفها لدى المجلس الوطني لحقوق الإنسان ولدى هيئة الإنصاف والمصالحة منذ عشرين سنة. ولا أحد أنصفها ولا حقق لها المُصالحة مع المأساة التي عاشتها منذ ستين سنة.
اختُطف زوجها بسبب انتمائه إلى حزب الشورى وعُذب في دار بريشة بمدينة تطوان، وأخبرت أنه صُفي هناك خلال الأيام التي كانت تحاول أن تأخذ له فيها طعاما حتى لا يموت جوعا. وعندما تأكد لها خبر موته حاولت الفرار بأبنائها إلى القرية التي يقطن فيها والدها في الريف، لكنها وجدته مقتولا قبل وصولها، في إطار تصفية بعض رموز المقاومة السابقين بعد حصول المغرب على الاستقلال.
كانت تُعيل أطفالها وهي في الخامسة عشرة من عمرها، وتجلي الصحون في مطعم يملكه إسباني وزوجته بمدينة طنجة، رقّا لحالها ولم يُصدقا أن طفلة دون العشرين لديها أربعة أبناء.
عندما فُتحت صفحة سنوات الرصاص، كانت من النازلين إلى الرباط لإعادة فتح الجروح القديمة وتعريضها للشمس. ورغم خيوط الأمل الكثيرة التي كانت تمسكها بيد واهنة، عل الاعتبار يعود لذكرى زوجها المُختطف من عتبة منزله، إلا أنها عاشت على أمل أن تعرف مكان دفن زوجها وأن تستخرج له شهادة وفاة محترمة.
سنة 2017 وصلنا إلى قصتها لأول مرة في إطار وثائقي عن دار بريشة بتطوان، ومن يومها وهي تعيش على أمل أن يشاهد قصتها المعنيون في الرباط، لكنها توفيت في شتنبر الماضي دون أن تحظى بتلك الفرصة التي كانت تنتظرها طوال هذه السنوات.
هذه السيدة، ومثيلاتها كثيرات، رحلن إلى دار البقاء وهن يحملن ذكريات طوابير الانتظار أمام السجون لحمل الوجبات المنزلية والملابس والسجائر والجرائد للأزواج المعتقلين في القضايا السياسية. عشن حياة حافلة حفظن خلالها وجوه «البوليس» السري ومرافعات النيابة العامة التي طالبت ذات زمن بالإعدام لأزواجهن، وسمعن عبر الراديو أخبار العفو عنهم لكي يضمدن الجروح والكدمات.
في الأخير احتفى قدماء الأحزاب بالمناضلين، ومنهم من أصبحت الشوارع والأزقة تحمل أسماءهم. ألفوا الكتب وأجروا الحوارات التي تحدثوا فيها عن السلاح وسوريا والاجتماعات السرية، والفقيه البصري وعمر دهكون و«أبطال بلا مجد». لكن لأحد فكّر يوما في النساء البسيطات اللواتي كن بالكاد يحفظن «بلاكة» الحافلة التي تنتقل من مركز المدينة إلى المحكمة والسجن. هؤلاء النسوة يستحققن بالتأكيد وقفة حقيقية لكي نرفع لهن القبعة عرفانا بما صنعنه لتاريخ هذا البلد الذي صار فيه نكران الجميل، هذه الأيام، هو العملة الأكثر رواجا.