المهدي مبروك
بدأت مواقف الدول الغربية، منذ أشهر قليلة، تتغير تدريجيا تجاه ما يجري في تونس. علينا أن نقر بأن بلدان الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لم تكن لها مواقف صارمة تجاه ما جرى يوم 25 يوليوز 2021. والأرجح أنها كانت تخفي سعادة ما بما استجد، فما طُوي لم يكن مأسوفا عليه عندها. أرادت تصريحاتٌ وزيارات أن ترضي ضميرا حقوقيا قد يخزها ذات يوم، وحتى تبدو للعالم حريصة على قيم الحرية والديمقراطية. دعت بعض التصريحات، في أقصى ما ذهبت إليه، الرئيس قيس سعيّد إلى احترام الديمقراطية. ظلت السلطات التونسية تتعامل بكثير من العناد، حتى التندر والاستهزاء في خطاب سيادي، ربما شكل نشازا لم تألفه آنذاك. ولكن يبدو أن هذه القوى لم تأخذ بعين الجد، في بداية الأمر، ما كان يصدر عن الرئيس من مواقف، وهو الذي ذهب إلى نقيض ما كانت تنتظره التصريحات منه.
ذهب في إيقاف خصومه حتى إلى أكثرهم اعتدالا ممن عارضه. لم يكتف برموز الحركة الإسلامية، بل شمل، بإجراءاته، طيفا مهما من المعارضة الحداثية والعلمانية ممن ظلوا يعتبرون ما حدث انقلابا، على غرار الأمين العام السابق للتيار الديمقراطي، المحامي غازي الشواشي، وأمين عام الحزب الجمهوري، عصام الشابي، والمناضلة الحقوقية شيماء عيسى.
ذهب في صياغة دستور جديد وحل المؤسسات وأعاد صياغتها بشكل أحادي. كانت القوى الأوروبية تراقب ما يجري بحذر كثير. كان طيف واسع من المتابعين والمحللين قد اعتقدوا أن إخفاق هذه التجربة سيكون اقتصاديا، وأن المعضلات الاقتصادية ستكون الصخر الذي سيصطدم به مشروع الرئيس، فالبلاد غارقة في ديون ستعجز عن سدادها، فضلا عن البطالة، والتفاوت الجهوي، وندرة المواد الغذائية، وغلاء الأسعار، علاوة على تردي خدمات المرفق العمومي، على غرار الصحة والتعليم والإدارة والنقل.
لم يكن لدى السلطات التونسية في تفاوضها مع صندوق النقد الدولي من أوراق عديدة تناور بها في تلك المفاوضات المتعثرة سوى موارد كانت مهملة، فثمنتها، غير عابئة بآثارها في ضرب من المجازفة القاتلة. على خلاف كل التوقعات، لم تكن تلك الخطوات قاتلة، بل كانت كما توقع لها صاحبها مربحة جدا.
التقطت رئيسة الوزراء الإيطالية، جورجيا ميلوني، تلك الإشارات، وهي التي كانت تتابع عن قرب أداء السلطات التونسية أثناء تلك المفاوضات، وهي التي تربطها بالرئيس التونسي قربى فكرية، نسجتها الشعبوية. كانت ميلوني قد اشتبكت مع نظرائها الأوروبيين على خلفية الهجرة، وهي لا تعتقد أنها بمفردها قادرة على ما تسميها «مكافحة الهجرة». قرعت جرس الإنذار، مستحضرة خطر الانهيار التونسي. وهي إذ تشير إلى ذلك، لا تفعل حتى تتقي إيطاليا شر هذا السيناريو، بل الاتحاد الأوروبي برمته، الذي اكتوى بالحرب الروسية الأوكرانية، خصوصا مع استمرارها. تشكل الهجرة، بعد صعود اليمين الأوروبي في أكثر من بلد، شبحا مرعبا يحرص الجميع على تفاديه، حتى ولو ساعدهم في ذلك خصومهم، فما بالك وتونس تريد أن تكون شريكا لهم. وقد عبر سعيّد عن مواقف صادمة من المهاجرين القادمين من جنوب الصحراء، فقد اعتبرهم منخرطين في وفاق إجرامي يستهدف في مؤامرة محكمة هوية تونس، قبل أن يعتبرهم ضحايا النظام العالمي. حرص على قول ذلك في زيارة إليهم، قبل ساعات من قدوم الوفد الأوروبي الذي فتح الباب أمام تصريحات مسؤولين غربيين عديدين، بمن فيهم وزير الخارجية الأمريكي بلينكن.
لا يقدر الاتحاد الأوروبي بمفرده على أن يساعد تونس ويخلصها من أزماتها الاقتصادية الحادة، وهو الذي ظل يشاهد غرقها، عندما كانت تبني تجربتها المضنية في الانتقال الديمقراطي. كما لا تبدو أمريكا متحمسة لذلك، وهي التي تضخ أموالا طائلة، من أجل دعم أوكرانيا. غير أن الجميع ينتابه الرعب، حين يتخيلون أن البلد ينهار في منطقة هشة مهيأة لذلك. ليبيا تعاني من حرب أهلية باردة، الجزائر تمتن لعلاقاتها مع روسيا، وقد أدى الرئيس عبد المجيد تبون زيارة مساندة لحليفه الذي سلح بلاده جيدا من دون ابتزاز. إفريقيا ما بعد الصحراء تتحول إلى منطقة طاردة لمئات آلاف اللاجئين والمهاجرين بأمراضها المزمنة، كالحروب الأهلية والانقلابات والكوارث والمجاعات.
تجاه هذا الخزان المتفجر من تدفقات البشر، لا يمكن أن يتصدى لتلك الأمواج الهادرة سوى الصحراء الكبرى وبلدان المغرب العربي، ومنها تونس. أدركت السلطة التونسية هذا، وهي تفاوض به الجميع، بما في ذلك صندوق النقد الدولي. لم تعد المسألة مجرد هجرة تدفقات، بل أمن المتوسط عموما واستقراره، وقد أوكل الجميع إلى الصندوق هذه المهمة المالية الكفيلة بضمان هذا الشرط الأدنى. وتفيد تصريحات مديرة البنك الدولي أخيرا بأن تقدما مهما أحرز من أجل اتفاق مهم مع السلطات التونسية.
تُثبت براغماتية السلطات التونسية في قضية الهجرة، وربطها بالمساعدات الاقتصادية، أنها يمكن أن تذهب بعيدا في علاقتها مع القوى الخارجية، من أجل أن تغدو القضايا التي كانت تقلقها، الحريات والحقوق والديمقراطية، مجرد تفاصيل لا تستحق مجرد العتاب بين الشركاء. حين يستيقظ القادة الغربيون صباحا، أول ما يشغلهم هو الرصاص المتطاير في مناطقنا، وليس ضحايا النضال من أجل الديمقراطية.
نافذة:
تشكل الهجرة بعد صعود اليمين الأوروبي في أكثر من بلد شبحا مرعبا يحرص الجميع على تفاديه حتى ولو ساعدهم في ذلك خصومهم