شوف تشوف

الرأي

تلك التي

شامة درشول

 

 

 

لم أتردد في اختيار عنوان لمقال مثلما ترددت في اختيار عنوان هذا المقال، ذلك أن ثقافتنا لن تسمح بنشر مقال عنوانه مثلا “ثديك”، أو “بزولة”، للحديث عن لغط كبير أثارته صورة تم تداولها على الشبكات الاجتماعية لامرأة يقال إنها كانت تجلس في مقهى، وكانت ترضع طفلها من ثديها، فطلب منها أن تستتر، فوضعت وشاحا على وجهها.

لم يحدد ما إن كانت الصورة التقطت في إحدى الدول بهذه البقعة البئيسة من هذا الكوكب المجنون، فحتى في بلد مثل أمريكا تطلق كل سنة حملة للفت الانتباه إلى شتى المضايقات التي تتعرض لها النساء اللواتي يضطررن لإرضاع أطفالهن في أماكن عامة، فيقوم بعض المارة بإلقاء كلمات ذات إيحاءات جنسية، أو يضايقون المرضعة بنظرات مزعجة، وهو ما يضع المجتمع الأمريكي في تناقض كبير بين دعوة النساء لإرضاع أطفالهن الرضاعة الطبيعية، وبين اضطرار هؤلاء النسوة إلى البحث عن أقرب مرحاض عمومي، ومن يعرف أمريكا يعرف إلى أي مدى المراحيض العمومية فيها غير نظيفة، وذلك من أجل أن تتمكن من إرضاع طفلها بعيدا عن نظرات من يحرك منظر ثدي المرضعة غرائزهم.

قلت إن تحديد مكان التقاط تلك الصورة لتلك المرأة وهي تستجيب لـ”أمر” ستر نفسها وهي ترضع طفلها بأن وضعت الوشاح على وجهها بدل ثديها، ليس مهما، مادامت المشكلة ليست في إرضاع المرأة طفلها في مكان عمومي والذي يخلق الجدل حتى في بلد مثل أمريكا، بل المشكلة في التساؤل عن سر هذا الإغراء الذي يشعر به رجل وهو يرى امرأة ترضع طفلها.

أتفهم رجلا قرأت يوما تساؤلا يقول فيه “ما الذي يجعل الرجل منا ينجذب بشكل لا يمكن تصوره لعضو اسمه الثدي في جسد المرأة أكثر من أي عضو آخر في جسمها مهما كانت باقي الأعضاء في جسدها مثيرة له أيضا؟”، سيرى العامة من الناس هذا التساؤل عيبا، وقلة حياء، وسوء أدب من الرجل، لكنه في بلدان تهتم بإجراء الدراسات والأبحاث على كل شيء، وتهتم بكل التساؤلات، ولا تؤمن بالتساؤل “الحلال” والتساؤل “الحرام”، ستخصص له ميزانية من الميزانية التي تخصص للبحث العلمي، وستحضر أخصائيين وعلماء وخبراء، وسيقومون بالإشراف على فريق للبحث في الأسباب التي تجعل الرجل ينجذب لمنظر امرأة ترضع، وستبحث أكثر في سر انجذاب الرجل لثدي المرأة، والنتائج التي ستخرج بها هذه الدراسات لن تبقى محصورة بين جدران مركز البحث العلمي بل ستنشر في المجلات التي تهتم بالعلوم، وأيضا ستعمم على منظمات المجتمع المدني التي تهتم بصحة المرأة، وحين نقول صحة المرأة فإنهم لن يقصوا من عرفهم العناية بنظافة المكان الذي تضطر المرأة للجوء إليه من أجل إرضاع طفلها، وسيحيلهم الأمر أيضا على البحث في أساليب حماية المرأة المرضعة من التحرش، وكل أشكال المضايقات وهي ترضع طفلها في مكان عام.

أرأيتم؟ الأمر أكبر بكثير من مجرد تساؤل تساءله رجل في لحظة صدق عن سر انجذاب بني جنسه لأثداء الجنس الآخر.

ولكي نفهم جيدا أن ثدي المرأة ليس مجرد عضو يثير رغبة الرجل، نستحضر كيف تعامل الإعلام مع خبر اكتشاف زوجة الرئيس السوري بشار الأسد، والفنانة اللبنانية إليسا إصابتهما بمرض سرطان الثدي، وكيف أن هذا الإعلام الذي تعاطف نوعا ما مع هذا الخبر، لم يكن ليظهر نفس التعاطف إن كانت هاتان السيدتان قد أصيبتا بنفس المرض لكن في مكان آخر، وهنا أستحضر عبارة سمعتها في صغري وأنا في الحافلة، وبقيت عالقة في ذاكرتي، امرأة مسنة، كانت ترتدي جلبابا ورديا، وتضع على رأسها وشاحا أبيض مطرزا بخيوط خضراء، وتزين ذقنها بأوشام صغيرة، وهي تردد وسط صمت الراكبين وبصوت عال “إوا الله يخرجنا ببزازلنا”، أذكر جيدا أن لا أحد في الحافلة ضحك، ولا حاول أن يضحك، واعتبروه دعاء معتادا، في الوقت الذي بدا لي وأنا طفلة دعاء غريبا، ومخجلا لأن السيدة ذكرت اسما لعضو لا نتحدث عنه باسمه أمام الملأ. بقي ذلك المشهد عالقا في ذهني حتى اليوم الذي شرح لي أحدهم أن نساءنا حين بدأ مرض سرطان الثدي يستشري بينهن، ويعلمن أن أقرب دواء لهذا المرض هو بتر تلك “البزولة” التي أرضعت عشرات الأطفال، وكانت رمزا لخصوبة المرأة، وصحتها، بل مصدر الحياة لرجال شداد أقوياء، كن يستصعبن الأمر، ويعتبرنه عقابا يتمنين من الله أن يرحمهن من عذابه، ووقعه، فكان أقرب دعاء لقلبهن، وأكثر أمنية يتمنين من الله أن يستجيب له هو أن يغادرن هذه الحياة بأثدائهن، وأن يحفظ الله أثداءهن من البتر.

ثدي المرأة، ليس مجرد عضو يجذب الرجل، وليس مجرد عضو تفخر به المرأة، وليس مجرد عضو يتنافس أطباء الجراحة في تكبيره لجعل المرأة أكثر إغراء، وليس مجرد عضو جعل الله فيه الحياة للطفل الرضيع، واكتشف العلماء بعد حين أن كل ما اخترعوه من حليب ليس سوى سبب داء، وأن الدواء هو حليب الأم الطبيعي، وليس مجرد عضو خاص بالمرأة فقط، بل هو رمز لتنكر الرجل لتلك الحياة التي قدمتها له المرأة الأم، وركضه وراء نفس الثدي لكن تحمله امرأة ليست له أما، لكنه يكرر معها نفس التنكر لما قدمته له تاركا إياها إلى ثدي آخر، في مسلسل ركض طويل لا ينتهي، يخوضه الرجل من ثدي لآخر، وحين يصعب عليه الحصول على ثدي يضايق صاحبته، وهذا ما توصلت إليه إحدى الدراسات في أمريكا بأن من بين أسباب تحرش رجال بنساء يرضعن أنهم يعتبرون هذا الثدي هو حق لهم، وحين لا يستطيعون الحصول عليه يفرغون غضبهم بمطالبة المرأة المرضعة بالتستر، وقد كانت تلك المرأة العجوز في الحافلة بليغة في دعائها ذاك، وكأنها تعرف أن الخطر على أثدائهن ليس بالضرورة قادما من السرطان فقط.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى