تفسير سورة الفاتحة.. مظاهر التحدي في البسملة (9)
د. عبد الجليل العبادلة
يدرك سر خصوصية الرحمن في عموم رحمته في الدنيا لأهل الدنيا، والجديد في ما ينشره من مكنون أسرار كنزه، ليريهم من آيات قدرته ويكشف لهم في عالم المثال سر هذا النور وأثره في الحياة. وكيف تنقلب موازين الحياة ويعيش الإنسان به في رغد من الحياة، ويتغلب به على كل الصعوبات. وكل ما لم يكن بوسعه عمله بإمكاناته المحدودة، فها النور الحسي المتمثل في الكهرباء تدبر فيما أحدثه من ثورة في عالم الصناعة وفي عالم المواصلات وفي عالم الطب وكل مجالات الحياة، فما بالكم بمن هو النور المحض فوق كل نور حسي؟ وما النور الحسي إلا سنا إشعاعاته فكيف بمن أتم الله عليهم نوره بل جعلهم قبسا من الأنوار سرجا وكواكب درية في كبد سماء الحضرة من أهل العرفان؟ هذا ما لا يحيط به العقل فيما يبلغ به الإنسان من درجات السمو والقدرة الخارقة والأنوار الحارقة المبددة لكل عوالم الظلمات.
فقبس من شعاع بسم الله الرحمن الرحيم سخر الله به لسيدنا سليمان كل عوالم الجن والإنس والشياطين فكانت ساجدة له قائمة لأمره لا تملك أن تتحول أو أن تتمرد. وإن هذه القدرة الخارقة في عالم المواصلات والبصيرة النافذة لكل ما في عالم السماء والأرض من الآيات مشهودة أوضح من شهادة الحس، ومعلومة لهم أكثر من علمهم بما يحيط بهم ويشهدونه. ومن هنا جعلهم الله أهل شهادته بما خصهم به من المزايا والقدرات، ما جعلهم مثل نور الذات فيما أمرهم به أن ينظروا إليه نظر العالم الخبير بالظاهر والباطن فحيث أمرهم في قوله «قل انظروا ماذا في السماوات والأرض» فكلمة قل هنا تحمل الإذن وإذا قال المأمور بالله سرى أمره في كل من توجه إليه هذا الخطاب «قل انظروا ماذا في السماوات والأرض» فأعطاهم بهذا الأمر القدرة على النظر ومشاهدة كل ما في السماوات والأرض، وهذا معنى قوله سبحانه في الحديث القدسي «كنت نظره الذي يبصر به» بينما البشر بكل الوسائل التي ابتكروها لم يستطيعوا أن يشهدوا إلا شيئا يسيرا من زينة السماء الدنيا المحيطة بكل ما فيها من الكواكب والنجوم والمجرات، بينما يصرّح وارث رسول الله الأعظم والصديق الأكبر أخو رسول الله صلى الله عليه وسلم من جعله بمنزلة هارون من موسى حين يقول «سلوني فوالله إني بمسالك السماء أعلم منها بمسالك الأرض».
فالحمد المتعارف عليه عند البشر من بني جنسهم من البشر إنما هو الثناء عليهم والإعجاب والتقدير على ما تميزوا به من الخصال أو الأفعال التي لم يأتِ بها أفراد جنسهم ولذلك كلما انكشف لهم من أعمالهم أو أقوالهم ما سبقوا به زمنهم ازدادوا بهم إعجابا وتقديرا وثناء، فكيف بمن تميز عن كل الخلق أجمعين بكل صفات الكمال وعظيم الفعال وبديع الصنع وسعة الرحمة والفضل والعطاء الذي ما خلا منه صغير أو كبير دق أو عظم، خفي أو ظهر إلا ونوال الله ورزقه المقسوم واصل إليه بما لا تحيط به العقول؟ فمن هنا كلما ازداد الإنسان معرفة بالله بما يتجلى عليه من مظاهر كمالات الذات وبديع ما تفردت به الأسماء والصفات لهج لسانه بالحمد لله فكان مترقياً في درجات الحمد ما دام في ازدياد من العلم بالله ومعرفته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان في زيادة من هذا في كل يوم بل ساعة ولمحة ومن هنا كان يستعيذ من يوم تطلع فيه الشمس لم يزدد فيه علما وهكذا إلى ما لا نهاية.
وحينما يلجأ أهل المحشر إلى الرسل والأنبياء ليتوسلوا إلى الله لكشف ما هم فيه ويعتذر الكل ويقول: لست لها لست لها حتى يلجأ إلى خاتمهم أجمعين فيقول: أنا لها أنا لها، فيسجد تحت ساق العرش ويلهم من المحامد التي يعلمه الله إياها على ما يكشف له من أسرار كنه ما خفي على العالمين الموجبة للرحمة والشفاعة فعُلم أن لا نهاية لسلم الترقي في درجات الحمد قال: (فأذهب إلى ربي، فإذا رأيته خررت له ساجدا، فأحمد ربي بمحامد يفتحها علي، لا أحسنها الآن فيقول لي: أي محمد، ارفع رأسك، وقل تسمع وسل تعط، واشفع تشفع، قال: فأقول: رب أمتي أمتي، فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة) وعند من تولاهم الله واصطفاهم لأن يكونوا في بيوت هي عنده كما هو طلب أهل الكمال «وابني لي بيتا عندك بالجنة» كما هو الشأن في الله أكبر التي كما ورد تملأ ما بين السماء والأرض لأن جلال ما تحمله من كبرياء الله وعظمته إذا تجلى بها قهر السماوات والأرض حتى يسجد الكل طوعا وكرها بأمره، ولا يملك أحد عند ذلك أن يشرك بالله وهذا من سر قول الله «ولو شاء ربك لآمن من في الأرض جميعا».