تفسير سورة الفاتحة.. مظاهر التحدي في البسملة (3)
د. عبد الجليل العبادلة
توقفت عند اسم الجلالة «الله» فحار العقل، فمن يستطيع أن يعرّف الله جل جلاله بخصائص ذاته؟ من لا يستطيع أن يعرف حقيقة نفسه وما انطوت عليه من الأسرار؟ ولا يستطيع أن يشهد سر وجوده في هذه الروح القائمة بالجسد وبكل خلية من خلاياه مدبرة لكل هذه العوالم القائمة؟ فتوقفت عن الكلام حتى يكون الإذن من ذي الجلال والإكرام بأنوار الفرقان.. فهنا خطر لي أن الله جل جلاله هو الذي كشف عن هوية ذاته الأزلية الغيبية بما تضمنه القرآن العظيم. ومن خصائص التفسير الموضوعي للقرآن الكريم أنه قائم أول ما يقوم على القرآن الكريم، فنظرت في عدد اسم الجلالة الله الذي ورد في القرآن الكريم، فإذا به يربو على تسعمائة مرة ويتجاوز الألف إذا أضفنا ذكر الإله مفردا أو مضافاً، وفي كل ذلك يكشف عن الخصائص الذاتية التي تفرّد بها عن الخلق أجمعين.
وأولى هذه الخصائص هي صفة الألوهية التي لا تنبغي لأحد من الخلق أجمعين، فالصفات التي تفرّد بها لا مثيل لأحد سواه في أن يتصف بها، فالحياة مثلا هي بالنسبة إلى الذات الأقدس أزلية وأبدية، فهو الحي الذي لا يموت أبدا. وإذا أردت أن تدرك ما في هذه الخصوصية لمن أحبه وعرف بكرمه وجوده وبرّه وعطفه، فإنه يظل قرير العين، لأن ما هو فيه لا يخشى من زواله، بل هو فضلا عن دوامه، على يقين في تساميه وازدياده. وإذا ألقيت نظرة في من يعيش كلّاً على مولاه من البشر ويشهد عطفه وحنانه وعنايته به وإكرامه، كيف يؤول حاله عند فقده بالموت الذي هو حق على العباد جميعا؟ إنه يؤثر أن يموت قبله أو يكون في إثره، لأن حياته بدونه كلا حياة.
ومن هنا نشهد أن هذه العاطفة تقوم في الحيوانات، فكم من خيلٍ صامت بعد رحيل ربها الوفي حتى لقيت حتفها؟ وهذا الجمل الذي ارتبط مع صاحبه بالحب والحنان كيف عكف على قبر صاحبه، كلما أبعدوه وساروا به إلى المرعى عاد إلى نفس المكان. وهكذا لو عشت مع كل اسمٍ وصفة لرأيت العجب العجاب في ما تنطوي عليه من المآثر التي بها يُزاد من أكرمه الله بصحبته والدخول في كنف معيته، كيف يكون في ترقٍ دائم وهناءة عيشٍ ورغد حياةٍ بما يتلاشى معه كل ما سواه من صنوف نعيم الدنيا وملذاتها التي يتنافس فيها أهلها، فكان ولا يزال هذا التنافس سببا في هلاكهم وتنغيص عيشهم وجورهم وظلمهم وبغيهم وفسادهم، حيث الأهواء هي المتحكمة والأنانية في جلب المصالح الذاتية هي القانون السائد كما هو في شريعة الغاب بين سائر أجناس الحيوانات البرية والبحرية. والذي لفت نظري كلام لسيدي العبد في تفسيره لسورة «الفجر»، حيث بدأ بتفسير البسملة فبدأ من النقطة ليكشف عن سرها المكنون وجوهرها المصون، فهي أصل التكوين فالخلائق كلها من هذه النقطة تكونت وكل دوائر الوجود من مركزها امتدت وتوسعت. وزيادة على ما ذكر المفسرون مما أشرنا إليه، أنها للاستعانة أو الملابسة، ذكر أنها للقسم، فهنا لا بُد أن يكون للمقسم به حيثية وجودية روحانية قدسية هي الجامعة لحقائق هذه الأسماء الثلاثة: الله الرحمن، الرحيم. وها هنا يشير إلى أن أول بروز للألوهية من عالم العماء إنما هو بتنزل أنوار الذات بمثل نور الألوهية الذي لا يقوى على مواجهته أي شيء من الكائنات. وما دام الحق جل جلاله قد خلق الخلق بما خلّقهم عليه، وكانت غايته من خلقهم أن يعرف لديهم، كان من الضروري أن يتنزل إلى عوالمهم بما يستطيعون مواجهته ومشاهدته، فكان التنزل الأول الذي هو مثل نور الله الذي لا مثيل له، هو ما تسمّى به الحق منفردا بالرحمن. فهذا الاسم بما يحمل من جلال الألوهية القائمة فيه، هو الذي له الخصوصية في الاستواء على عرش قلب الإنسان المسوّى باسم الله الرحيم، حيث صار له اسما نظرا لمزيد لطافته وأنسه. وهذا من خواص الربوبية التي من شأنها التربية، وهي التهيئة والاستعداد لكل من أراد الله أن يبلغه مقام الشهادة لذاته ويكون محلاً لتنزل فيوض إمداداته. وهذا ما نلمحه في قول الله جل جلاله للملائكة الكرام الذين نظروا إلى آدم وهو في بشريته قبل التسوية، ذلك أن الله جل جلاله أخبرهم بقوله: «إني خالق بشرا من طين فإذا سويته».. إذا كانت البشرية بما فيها من كل هذه الغرائز مع عدم العلم والمعرفة، ستؤدي قطعا إلى الفساد في الأرض وسفك الدماء، وهذا هو شأنها عند البشر الذين لم يسلكوا سبل الأنبياء في ما هداهم الله إليه من سبل هذه التسوية، ولذلك حين اعترضوا رد عليهم بقوله جل جلاله: «إني أعلم ما لا تعلمون».