تفسير سورة الفاتحة (41)
«مالك يوم الدين»: تباينت عبارات علماء التفسير في القول بأفضلية كلمة مالك على كلمة ملك في القراءة، وهما قراءتان متواترتان. أما القائلون بأفضلية القراءة بـ«مالك» فلأنها تزيد حرفا على كلمة «ملك» وذلك للحديث الوارد: «من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف». أما القائلون بأفضلية ملك، فلأنها تحمل الدلالة على مظاهر القدرة والعظمة، وهي أكثر مناسبة لما في هذا اليوم من شهود مظاهر العظمة والقدرة. وقد أوردوا على ذلك قول الله سبحانه «لمن الملك اليوم لله الواحد القهار». والصحيح أنه لا تفاضل في القراءات ولا في الآيات القرآنية، بل كله في موضعه لا يسدُّ مكانه شيءٌ مما سواه من الكلم، ذلك أنه «كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِير» فكلا الكلمتين تُكمل حقيقة ما في هذا اليوم من مظاهر كمال العظمة والقدرة التي تتجلى على حقيقتها لكمال شأنها. فإن كلمة مالك تشمل ما لا يتصور شهوده في غير هذا اليوم، حيث يتجرد الكلُ من كلِ ما أمكن نسبته إليهم في الحياة الدنيا في الفقر والفاقة والاضطرار، حتى من الثياب التي كانوا يلبسونها، كما ورد في الحديث (يُحشر الناس يوم القيامة حُفاة عُراة غُرْلاً)، قالت: يا رسول الله، الرجال والنساء جميعًا ينظر بعضهم إلى بعض، قال: (يا عائشة الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض)! فتصورا ما يكون الكل من الذهول عن النظر من هول ما يشهد، حيث الأنظار والشغل الشاغل في ما ينتظر الكل من حقيقة المصير الذي يلاقيه. فهذا الخطب الجلل وبما يحمله هذا اليوم من الأهوال والشدائد حيث وصفه الله جل جلاله بقوله: «وكان يوما على الكافرين عسيرا» فلا نسبة لأحد في هذا اليوم لشيء من الملكية، التي كانت لهم في الدنيا، وبها يتفاوتون في طبقاتهم ومنازلهم، ويتعالون بها على الآخرين، وتشغلهم عن ذكر الله، وتلهيهم عن الوقوف بين يدي رب العالمين.
أما الجانب الآخر في ما يحمله لفظ الملك من الهيبة والجلال، حيث يتلاشى أمام هيبة ذي الجلال والإكرام كل الملوك والعظماء. فلا يكون لمن شاهد من هذه الهيبة والجلالة أي معنى لما كان يراه في الدنيا للملوك والعظماء والرؤساء. بل يراهم أكثر ذلا وبعدا عن الأمل في النجاة، حين يرون حقيقة ما كانوا عليه من الغرور والكبرياء والظلم والقهر والاستعباد لعباد الله، حتى لا يكون في مقدور أحد أن ينبس ببنت شفةٍ في هذا التجلي الرهيب، حيث يقول جل جلاله «وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا». «يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لّا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا». وهنا تشهد الصورة كاملة بما لم يكن في حسبان أحد من البشر، حيث ذلك التجلي فوق مدار ما تتصوره العقول ويرتقي إليه الوهم والخيال وإلى عظمة ما ينطق فيه قول الحق «وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ* ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ* يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ». أما بالنسبة للمراد بيوم الدين، فهذا ما تضمنه قول الحق جل جلاله في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: (الحمد لله رب العالمين) قال الله: حمدني عبدي. وإذا قال: (الرحمن الرحيم) قال الله: أثنى علي عبدي. وإذا قال: (مالك يوم الدين) قال الله: مجدني عبدي. وإذا قال: (إياك نعبد وإياك نستعين) قال: هذه الآية بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل. فإذا قال: (اهدنا الصراط المستقيم) (صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) قال: هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل.
والمجد يحمل الكثير من المعاني، فالذي نال ذروة المجد نال من الرفعة وعلو الشأن والسعة في العطاء ونفاذ الأمر، ما لم يبلغه أحد سواه. وليس من أحد في هذا اليوم، ممن سعى إليه في الدنيا من المجد والشهرة، من أثر لهذا المجد الزائف الذي لا معنى له أمام المجد الإلهي في رفعته وعلو ذاته وكبرياء جلاله وملكه الواسع العظيم وعظيم فضله وكرمه وسعة عطائه لعباده المؤمنين.