ظهرت وثائق سرية على الأنترنيت تفصل أسرار الأمن القومي الأمريكي المتعلقة بأوكرانيا والشرق الأوسط والصين. فقد فضحت هذه الملفات، التي تتكون من أكثر من 50 وثيقة عليها ختم «سري للغاية»، الطريقة التي تقوم بها الولايات المتحدة بالتجسس على الأعداء والأصدقاء على حد سواء.
سهيلة التاور
منذ أسابيع، يحاول مسؤولون أمريكيون بجهد كبير تحديد مصدر تسريب وثائق عسكرية ومخابراتية شديدة السرية، انتشرت على الأنترنيت وتضمنت تفاصيل، منها ما يتعلق بالدفاعات الجوية الأوكرانية وبجهاز المخابرات الإسرائيلي الموساد.
وأحجمت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) عن التعليق على صحة الوثائق، والمجموعة الأولى التي جرى تداولها على مواقع، مثل «تويتر» و«تيليغرام» تحمل تاريخ الأول من مارس، وأختاما تشير إلى تصنيفها بأنها «سرية» و«سرية للغاية».
وقالت المتحدثة باسم وزارة الدفاع الأمريكية سابرينا سينغ: «نحن على علم بالتقارير التي تشير إلى منشورات وسائل التواصل الاجتماعي، والوزارة تراجع الأمر».
وشمل التسريب أكثر من 50 وثيقة بعنوان «سري» و«سري للغاية» ظهرت لأول مرة الشهر الماضي على مواقع التواصل الاجتماعي، بداية من منصتي «ديسكورد» و«فورتشان». ورغم أن بعض تلك الوثائق جرى نشرها قبل أسابيع، فقد كانت صحيفة «نيويورك تايمز» أول من أورد نبأ عنها يوم الجمعة الماضي.
إسرائيل وكوريا الجنوبية
كشفت الوثائق الأمريكية المسربة أن واشنطن وضعت سيناريوهات لدفع إسرائيل إلى تقديم مساعدات عسكرية تشمل أسلحة قاتلة لأوكرانيا، وفيما أكد مسؤول أمريكي أن بعض الوثائق المسربة «أصلية»، يرى آخرون أنه تم التلاعب بها لإخفاء مصدر التسريب أو لنشر معلومات كاذبة «قد تضر بالمصالح الأمنية الأمريكية».
وتقول وثيقة أخرى، تحمل ختم «سري للغاية» ومأخوذة من إفادة للمخابرات المركزية الأمريكية (سي آي إي) بتاريخ الأول من مارس الماضي، إن الموساد دعم الاحتجاجات المناهضة لخطط رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، لإضعاف جهاز القضاء وإحكام السيطرة على المحكمة العليا.
وقالت الوثيقة إن الولايات المتحدة علمت بذلك من خلال إشارات مخابرات، ما يشير إلى أن واشنطن كانت تتجسس على أحد أهم حلفائها في الشرق الأوسط. وفي بيان صدر عن مكتب نتنياهو، قال الموساد إن الوثيقة «كاذبة ولا أساس لها على الإطلاق».
وتبحث وثيقة أخرى صادرة عن البنتاغون «الظروف التي قد تدفع إسرائيل إلى تقديم مساعدات عسكرية «قاتلة» لأوكرانيا». وبحسب الوثيقة، «من المحتمل أن تفكر إسرائيل في تقديم مساعدة قاتلة (لكييف) تحت ضغط أمريكي متزايد أو في حال (طرأ) ما سينظر إليه (إسرائيليا) على أنه تدهور للعلاقات مع روسيا».
وعرضت وثيقة أخرى تفاصيل متعلقة بمناقشات خاصة دارت بين كبار المسؤولين الكوريين الجنوبيين حول الضغط الأمريكي على الحليف الآسيوي للمساعدة في إمداد أوكرانيا بالأسلحة وسياسة سول القائمة على ألا تفعل ذلك.
وقال مسؤول في القصر الرئاسي بكوريا الجنوبية إن سول على علم بالتقارير الإعلامية المتعلقة بالوثائق المسربة وإنها تعتزم مناقشة الولايات المتحدة في القضايا التي أثارتها التسريبات.
ولم يتطرق البنتاغون إلى مضمون هذه الوثائق، ومن بينها، على ما يبدو، مراقبة الحلفاء.
دور الناتو
أفادت تقارير غربية بأن مجموعة من الوثائق المسربة، التي توضح بالتفصيل الخطط المتعلقة بالهجوم العسكري الأوكراني في الربيع، والتي يتم تداولها عبر الأنترنيت، تشير ضمنًا إلى وجود جنود فرنسيين في ساحة المعركة.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ كشفت إحدى الوثائق التي صُنفت بعلامة «سري للغاية» أن فرقة صغيرة لا تتخطى 100 فرد من العمليات الخاصة لأعضاء الناتو، فرنسا وأمريكا وبريطانيا ولاتفيا، كانت نشطة بالفعل في أوكرانيا على الأرض.
وجرى نشر الوثائق المحتوية على رسوم بيانية وتفاصيل حول تسليمات أسلحة متوقعة وقوة الكتائب ومعلومات «شديدة الحساسية» على مواقع التواصل الاجتماعي.
وعلى الفور، نفت وزارة الدفاع الفرنسية وجود جنود فرنسيين في أوكرانيا، حسبما زعمته الوثائق المنسوبة إلى البنتاغون وتسربت لشبكات روسية خلال الأيام الماضية، حيث قال وزير الدفاع الفرنسي، سيباستيان ليكورنو، لصحيفة «لوموند»، إنه «لا توجد قوات فرنسية تشارك في عمليات بأوكرانيا».
وأكد ليكورنو أن «الوثائق المذكورة لم تخرج عن الجيش الفرنسي، ومن ثم لا يعلق على تلك الوثائق التي لم يُؤكد مصدرها».
وينتشر قرابة 40 ألف جندي من الناتو في الدول الأعضاء الحلف العسكري بمنطقة الحرب، مثل دول البلطيق وبولندا، بالإضافة إلى 300 ألف جندي آخرين في حالة تأهب قصوى.
وتجري تدريبات مكثفة للقوات الأوكرانية من قبل أعضاء الناتو خارج البلاد، لكن لم تعلن أي دولة عضو في الناتو رسمياً أنها ساهمت بأفراد عسكريين للقتال في أوكرانيا.
وقال الخبير الأمني الأوروبي في المعهد الملكي للخدمات المتخصص في أبحاث الدفاع والأمن، إدوارد أرنولد، إنه لا يوجد دليل قاطع على مشاركة قوات الناتو في أوكرانيا.
الحرب الروسية الأوكرانية
تغطي الوثائق بشكل أساسي الحرب في أوكرانيا من ناحية تقييم مسار الحرب وإلى أين تتجه، وما طبيعة الأسلحة التي تحتاجها أوكرانيا، وهي تقييمات تسهم في تحديد قرارات إدارة بايدن، وكيفية دعم أوكرانيا والرد على استراتيجية روسيا العسكرية.
وفي تقييم يعود إلى 23 فبراير، توقع المحللون الأمريكيون حرب استنزاف طاحنة في إقليم دونباس، وفشلا روسيا في السيطرة على المنطقة بنهاية 2023. وتم دعم الوثيقة التي طبعت بخط عريض بصور من الأقمار الاصطناعية التجسسية والتجارية.
وما تكشف عنه الوثائق أن الولايات المتحدة اخترقت القوات الروسية بشكل عميق، بحيث تستطيع تحذير الأوكرانيين مقدما من تحركات الروس وخططهم ومكامن ضعفهم وقوتهم، وهذا أمر معروف، لكن لم يتم الكشف عنه بشكل علني. ففي وثيقة من صفحة واحدة، كشف الأمريكيون عن خطط وزارة الدفاع لضرب القوات الأوكرانية في موقعين، إلى جانب غارات على محطات الطاقة والجسور.
وتكشف الوثائق عن معرفة الاستخبارات الأمريكية بخطط لوكالة الاستخبارات العسكرية الروسية (جي أر يو) القيام بحملة دعاية في إفريقيا لتشويه الولايات المتحدة وفرنسا تحديدا، وزرع معلومات خاطئة في الصحافة الإفريقية؛ لتشويه أوكرانيا ورئيسها فولدومير زيلينسكي.
وثائق أخرى
أشارت وثيقة مسربة إلى اتصال مجموعة فاغنز الروسية بالحكومة في هايتي، وإلى معلومات خاصة بعمليات مجموعة المرتزقة الروس في ليبيا.
وأشارت وثيقة أخرى إلى أن المملكة المتحدة تخطط لنشر واحدة من حاملات الطائرات الجديدة من طراز الملكة إليزابيث التابعة للبحرية الملكية في جنوب المحيط الهادئ لمواجهة النفوذ الصيني في المنطقة، وقيمت تلك التسريبات أيضًا رد فعل بكين على الخطط البريطانية.
وتوجد وثائق أخرى ولكنها أقل أهمية، مثل تقييم كفاءة استجابة الحكومة لتفشي فيروس ماربورج في غينيا الاستوائية أو التقدم المحرز في الانتخابات النيجيرية.
خطط روسية
قال ثلاثة مسؤولين أمريكيين إن من المرجح أن تكون روسيا أو عناصر موالية لها وراء تسريب تلك الوثائق العسكرية الأمريكية السرية على مواقع التواصل الاجتماعي تتضمن لمحة جزئية عن الحرب في أوكرانيا تعود لشهر مضى. وقال المسؤولون الأمريكيون إن الوثائق جرى تعديلها على ما يبدو لتقليل عدد القتلى والمصابين في صفوف القوات الروسية. وأضافوا أن تقييماتهم غير رسمية ولا ترتبط بتحقيق يجري في عملية التسريب نفسها. وطلب المسؤولون الأمريكيون عدم نشر هوياتهم نظرا لحساسية الأمر وامتنعوا عن مناقشة تفاصيل الوثائق.
وذكرت إحدى الوثائق المنشورة على مواقع التواصل الاجتماعي أن ما بين 16 ألفا و17500 جندي روسي قتلوا منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا. ويقول مسؤولون إن الولايات المتحدة تعتقد أن الرقم الفعلي أعلى بكثير ويبلغ حوالي 200 ألف روسي بين قتيل ومصاب.
ولم تذكر الوثائق، في ما يبدو، أي معلومات محددة بشأن خطط كييف الحربية. ومن جانبه، قال ميخايلو بودولاك، مستشار رئيس مكتب الرئيس الأوكراني، إنه يعتقد أن الروس يقفون وراء التسريب المزعوم، وإن الوثائق التي نشروها غير أصلية، وليست لها علاقة بخطط أوكرانيا الحقيقية، وتستند إلى «كمية كبيرة من المعلومات الوهمية».
وأدى ظهور الوثائق، سواء كانت أصلية أم لا، إلى زيادة التركيز على وقت بدء الهجوم المضاد الأوكراني المخطط له وماذا يعرفه أي من الجانبين، إن وجد، عن استعدادات الطرف الآخر له.
وإحدى الصور التي تم تداولها على قنوات تليغرام الروسية، هي صورة لنسخة ورقية من مستند بعنوان: ، US Allied & Partner UAF Combat Power Build.. ، الولايات المتحدة والحلفاء والشريك بناء القوة القتالية UAF.
وهناك ورقة أخرى بعنوان «روسيا / هيئة الأركان المشتركة الأوكرانية J3/4/5 التحديث اليومي (D+370)».
وتشير J3 إلى مديرية العمليات في هيئة الأركان المشتركة للجيش الأمريكي، وتتعامل J4 مع اللوجستيات والهندسة، وتقترح J5 الاستراتيجيات والخطط والتوصيات السياسية.
وذكرت صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية، التي كشفت لأول مرة عن تحقيق البنتاغون، أن بعض الصور التي تم تداولها على الأنترنيت تصف معلومات استخباراتية قد تكون مفيدة لروسيا، مثل مدى سرعة الأوكرانيين في استهلاك الذخائر المستخدمة في أنظمة الصواريخ التي قدمتها الولايات المتحدة.
ووصف بودولاك الوثائق بأنها «خدعة وغبار في العين»، وقال: «إذا تلقت روسيا بالفعل استعدادات حقيقية للسيناريو، فلن تنشرها على الملأ».
وأضاف: «روسيا تبحث عن أي طريقة للاستيلاء على المعلومات، لمحاولة التأثير على خطط سيناريو هجوم أوكرانيا المضاد، ولإثارة الشكوك، والتنازل عن الأفكار السابقة».
وأوضح بودولاك أن القوات الروسية «ستتعرف» على خطط الهجوم المضاد الحقيقية لأوكرانيا «قريبًا جدًا».
وأضاف المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، في بيان: «ليس لدينا أدنى شك بشأن التورط المباشر أو غير المباشر للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي في الصراع بين روسيا وأوكرانيا. وهذا المستوى من التورط آخذ في الارتفاع، ويزداد تدريجيا، نحن نراقب هذه العملية، وبالطبع يجعل القصة بأكملها أكثر تعقيدا، لكنه لا يمكن أن يؤثر على النتيجة النهائية للعملية الخاصة».
رد روسيا
انتقد المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، خلال رده على سؤال من قبل الصحافيين، عما إذا كانت روسيا أو عناصر موالية لها وراء تسريب الوثائق السرية، ما قال إنه «ميل لإلقاء اللوم على روسيا»، واصفا إياه بأنه «مرض شائع».
وقال بيسكوف إن «إلقاء اللوم على روسيا في كل شيء أصبح الآن مرضا شائعا»، وأضاف أن التسريبات «مثيرة جدا للاهتمام»، وأنه «لا يمكنه استبعاد احتمال تنصت الولايات المتحدة على حلفائها الرئيسيين».
وتابع قائلا: «الحقيقة أن الولايات المتحدة بدأت منذ فترة طويلة مراقبة العديد من رؤساء الدول، وخاصة العواصم الأوروبية، وكُشف عن ذلك مرارا، ما تسبب في مواقف فاضحة، لذلك هذا لا يمكن استبعاده».
سيناريوهات التسريب
قال الخبير الاستخباراتي الأمريكي جوناثان أكوف، وهو من قسم دراسات الاستخبارات والأمن القومي بجامعة كارولينا، إن هناك ستة سيناريوهات حول من يقف وراء التسريبات:
1ـ تم تسريب الوثائق في الأغلب من قبل أحد العاملين بقطاع الاستخبارات الأمريكي، وينتمي لتيار اليمين المتطرف الذي يسعى لتقويض المجهود الحربي الأمريكي الداعم لأوكرانيا. وبالنظر إلى ضخامة أعداد المرتبطين بالجماعات اليمينية المتطرفة داخل أجهزة الاستخبارات، فإن هناك تقصيرا في التحريات الأمنية عن العاملين في هذه الأجهزة.
2ـ التسريبات قد تكون جاءت من شخص يحاول فضح مخالفات الحكومة الأمريكية، سيما ما يتعلق بتجسس الاستخبارات الأمريكية على حلفاء واشنطن الذين تعهدت الحكومة الأمريكية بوقف التجسس عليهم. وسبق أن اعترضت الاستخبارات الأمريكية الهاتف الخلوي للمستشارة الألمانية السابقة، أنجيلا ميركل، خلال إدارة الرئيس السابق باراك أوباما. ولا يقتصر تجسس أمريكا على ألمانيا.
ولأن بعض التسريبات تظهر مدى الضرر الذي لحق بروسيا بسبب الحرب، وكذلك كيف أن الخسائر الأوكرانية أسوأ مما أُبلغ عنه، يمكن للمرء أن يكتشف أن الدافع وراء هذه التسريبات هو الإسهام في تحقيق السلام.
3ـ قد تكون التسريبات مضللة وتكون روسيا أو الصين وراءها، وتكون جمعتها أجهزة التجسس الخاصة بهما وسربتها لتقويض الجبهة الموحدة لحلف الناتو. وقد تكون روسيا ضمنت معلومات تُظهرها بصورة ضعيفة وهو ما يوفر حجة مقنعة بأنها ليست مصدر التسريبات.
4ـ أن يكون التسريب جزءا من استراتيجية التضليل والخداع الأمريكية، أي أن «التسريبات معلومات مضللة أمريكية»، وقد يكون ذلك أمرا غير قابل للتصديق، ولكنه ممكن. وتميل الولايات المتحدة إلى الانخراط في أشكال من الاتصالات الاستراتيجية عندما تدير عمليات معلوماتية، وليس معلومات مضللة. كما أن إدراج معلومات عن العمليات الجارية والتجسس الأمريكي ضد الحلفاء يضر بمصالح واشنطن، لذا فهذا السيناريو غير مرجح.
5ـ أن يكون مصدر التسريبات من شخص مؤيد بشدة لأوكرانيا من داخل أجهزة الاستخبارات الأمريكية، إلا أن هذا السيناريو كذلك غير مرجح لما يشمله من احتمال الإضرار بمصالح أوكرانيا.
6ـ التسريبات من قراصنة ليست لديهم أهداف سياسية معينة، وقد يكونون فقط ممن يستمتعون بزرع الفوضى على سبيل التسلية. ولأن كثيرا من هذه الوثائق والمواد ظهرت في الأصل في منتديات دردشة ألعاب الفيديو، فهذا احتمال كبير، وفي هذا السياق لا بد من ملاحظة الروابط الوثيقة بين المبرمجين الروس ومجتمع ألعاب الفيديو.