شوف تشوف

الرأيالرئيسية

تساؤلات وإشكالات

«حتى الملائكة تسأل»، هذا هو عنوان الكتاب الثاني لأستاذ الرياضيات الأمريكي «جيفري لانغ» وهو يروي تجربته مع والده، حين سأله عن الجنة والنار، وهو الجدل نفسه الذي دفع مقاتل الساموراي إلى أن يسأل الحكيم الصيني عن الجنة والنار.. أما صاحبنا «لانغ»، فيذكر صحبته مع والده في يوم غيم وضباب، بجنب البحر. يقول صمت والدي حتى ظننت أنه نسي السؤال، ثم نظر إلى الأفق البعيد فقال: يا بني أما الجنة فلا علم لي بها، أما النار فقد ذقتها قبل دخولها. يقصد بها ذلك الكدح اليومي الذي يعاني منه ابن آدم، في كل بقعة في الأرض. أقبح من ذلك بكثير ما وصف الله البلايا في ثلاثة اتجاهات. جاء هذا في ثلاث صور في آية واحدة، أنه القادر على أن يبعث علينا عذابا من فوقنا أو من تحت أرجلنا (كما في زلزال تركيا 6 فبراير2023)، والثانية (أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض). النموذج الأخير أتذكره من جنكيز خان وهو يحاصر مدينة في خوارزم، حين لجأ إليه أعيان البلدة بقولهم: ذقنا عذابك، فهل من مرحمة؟ الجواب معروف! أما صاحبنا مقاتل الساموراي فقد فوجئ باستهزاء واحتقار الحكيم له، فاستل سيفه. ضحك الحكيم وقال: سألتني عن الجنة والنار، فهذه هي النار. هدأ الساموراي وفهم القصد. قال له الحكيم: كيف تجد نفسك الآن فهذه هي الجنة؟

مقالات ذات صلة

في مطلع سورة «البقرة» ثمة حوار بين الله والملائكة وإبليس وآدم. تبدأ المسرحية الكونية بإعلان هام عن مشروع كائن جديد، هو نحن بنو آدم. لكن الغريب ولا نعرف على وجه الدقة، لماذا توقعت الملائكة في هذا الكائن الجديد أنه سيئ، بل ومجرم؟ سألت الملائكة: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ هل رأت في نماذج أخرى هذه الخطيئة؟ نحن نعلم أن ثمة نماذج غيرنا من نوع الإنسانيات مرت على وجه الأرض، ربما زادت على عشرة أنواع، وكان آخرها نموذج إنسان نياندرتال الذي اختفى من وجه الأرض، قبل ثلاثين ألف سنة.

نحن نعرف أيضا أنواع بشرية كانت كانيباليزم، أي تأكل من نفس صنفها. ومنه حرم القرآن الغيبة تحت هذا المفهوم بقوله: أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه؟ هل كان تصور الملائكة من خلال مفهوم المخالفة أنه سيكون كذلك، طالما لم يكن ملكا؟ هل فتح أمامها نافذة الغيب، فاطلعت فرأت فصولا مما مارسه أجدادنا من سفك الدماء والحروب؟ ليس من جواب مريح ومقنع على وجه الدقة.

هذه الآية هي من هذا النمط الذي أسميه (آيات مفتاحية) و(أجنة قرآنية)، فهي إرهاصات عن النوع البشري القادم إلى الأرض. كما نرى كان ظن الملائكة فينا سيئا: مفسد ومجرم، لكن الله أجاب عن هذا التساؤل اللغز، قال وفي أربع كلمات: «إني أعلم ما لا تعلمون». وهكذا كان الرهان بين ظن الملائكة وعلم الله في هذا الكائن الجديد جدا مختلف.

لكن الجواب الرباني بدأ في أمر نحن نراه بديهيا، ولكنه سر الخليقة حين «علم آدم الأسماء كلها»، هنا نحن البشر عندنا قدرة النطق والترميز و(المعرفة)، أي شجرة المعرفة، وهي من علم الله الذي يعرف السر وما يخفى. أكثر من ذلك أمر الملائكة بالسجود لهذا الكائن، وهو أمر جدا غريب، فالسجود لا يكون إلا لله، فما هو السر من جديد أن تسجد لنا الملائكة؟ وأي رفعة في المكانة وصل إليها هذا الكائن الجديد المسمى الإنسان؟

مسرحية الوجود تكتمل بإضافة خطيرة وهي السر من جديد في تميز الإنسان؛ ما يمكن تسميته إطلاق الشر في العالم. إبليس حاضر في الجلسة، وطُلِبَ منه ما طلب من الملائكة بالسجود لهذا الكائن الجديد الإنسان. جواب الشيطان: أأسجد لمن خلقت طينا؟

الكائنات أنواع منها الملائكة النورانية باتجاه واحد، فلا تعرف إلا الطاعة والتسبيح، وكائنات في الاتجاه المضاد المعصية والتمرد. من جديد لماذا خلقها وأعطاها ميزة أن تعصى الأوامر؟ إبليس يقول إنه لن يسجد لآدم، فهو أفضل منه، لأنه خلق من نار السموم، وخلق الإنسان من صلصال وطين لازب. لكنه بهذه الكيفية وقع في ثلاثة أخطاء مصيرية: الاستكبار وهو أعظم الخطايا، وعدم مراجعة النفس، أي ممارسة النقد الذاتي، وهو الذي فعله آدم بعد الخطيئة، حين قال هو وزوجته: ربنا ظلمنا أنفسنا. قدرة الاعتراف شيء مذهل عندنا نحن بنو آدم، والتوبة التي تغسل الذنوب فهذه هي طبيعتنا. والخطأ الثالث الأشنع عدم الانتباه إلى مفهوم المادة والطاقة، وهو ما قادت إليه الفيزياء الحديثة، أن المادة هي طاقة مكثفة على نحو مخيف. مع ذلك فثمة فذلكة جميلة سمعتها من بائع حليب، حين قال: من يصنع جهازا معقدا فهو يدل على عبقرية الصانع بقدر انفكاك المصنوع عن الصانع، فإذا انفك كاملا وتحرر وعمل مستقلا، كانت عبقرية الصانع كاملة.

هكذا بدأت مسرحية الوجود مع أول القرآن في أول سورة «البقرة»، هذا الوجود المحيط بنا والذي تشرف بوجود الإنسان العجيب، المختلف عن كل الكائنات من حوله، القادر اليوم على تدمير نفسه بما وصل إليه من سقف القوة. الإنسان الناطق الذي يرمز إلى الكلمات بأصوات وحروف، فيختلف عن كل الكائنات من حوله، تلك التي تمشي وفق غريزة مطوقة للإرادة، فلا إرادة حرة. نحن بنو آدم من نصوم، فلم نر يوما قطة صامت أو عجلا أضرب عن الطعام، إلا أن يكون مسموما فتقوده قوانين البيولوجيا إلى حتفه أو النجاة. أما الإنسان فهو يقدم على الانتحار بكامل وعيه وإرادته، وكذلك الصيام، فيعلن عصيانه وتمرده على حاجيات الفسيولوجيا بإرادته. هل هي ورطة وجودية؟ ليس عندنا من إجابة سوى أننا نأتي إلى هذا العالم ثم نودعه، وخلال مائة عام لن نبقى نحن ولا أبناؤنا ولا أحفادنا، «كما بدأكم تعودون». ولعلنا نقول ما قالته الأميرة شارلتنبورغ عن أستاذها «لايبنتس Leibnitz» إنها فهمت الكثير، ولكنها تتوقع مع الموت أن تفهم ما عجز لايبنتس عن توضيحه.  

 خالص جلبي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى