شوف تشوف

الرأيالرئيسيةثقافة وفن

تدريب النفس على الرياضة العقلية

 

بقلم: خالص جلبي

أرسل إلي الأخ جميل من جدة رسالة يقول فيها: مشكلتي أني في السابق كنت أحب المذاكرة ووقتي كان كله مذاكرة، ولكن في الفترة الأخيرة كلما فتحت كتابا أغلقته بعد ساعة، وشكا من عدم جدوى مجادلة المتعصبين، ثم سأل كيف يمكنه أن يتحكم في عقله للتغذية المعرفية؟ وهي أمور عظيمة، فكان جوابي له: لقد سألت عظيما. أما جدل هؤلاء فينفع في اكتشاف جغرافية عقولهم، أكثر من تغيير عقولهم.

وحسب ديكارت، فإن العقل وزع بالتساوي بين أبناء البشر، وأخطاء الناس تأتي من دفعها في منهج دون آخر، ولذا وضع ديكارت كتابه «المقال على المنهج» ورسم أربعة مفاصل للمنهج التحليلي، وقال عنه إنه منهج يستفيد منه الجميع بمن فيهم الأتراك؟ ويومها كان الأتراك قد احتلوا نصف أوروبا، والقرآن يقول إن من أغلق منافذ الفهم؛ سواء عليهم أوعظتهم أم لم تكن من الواعظين، فهؤلاء لا فائدة منهم، وهي حالات الغانغرين العقلية، فهي موجودة في الدماغ، كما هي في اسوداد الأطراف، واللون في الدماغ أصفر آية للمتوسمين.

أما القراءة والحكمة فيها؛ فهي خبرة طويلة تمتد عشرات السنين، والعديد من العقود والجهود، وآلاف الساعات وحدبة الظهر وذهاب البصر. وكما يوجد خبراء للذهب والألماس، كذلك يوجد خبراء كتب وأفكار. وفيلسوف مثل «وايتهد»، صاحب الرأس الأشيب، أشار في كتابه إلى (مغامرات العقل البشري) واكتشاف الجديد من شواطئ المعرفة. فكما كان المجهول في الجغرافيا جاهزا لرحلات الاكتشاف، فإن دهاليز العقل أعقد وخبايا الفكر أكثر ويحتاج إلى تدريب، ومن سنوات اليفع الأولى، بركة للمتقين وعونا من الله لعباده المتبتلين الخاشعين.

وأنا شخصيا أذكر جيدا من شبابي، أنني كنت أحمل كتابي إلى البرية، تحضيرا للامتحان؛ فلا تأتيني همة الدراسة وأشعر بالكسل وضعف النشاط؛ فكنت أخاطب نفسي؛ أقسمت يا نفس لتنزلنه أو لتكرهنه مالي أراك تكرهين الجنة. نعم إن للقراءة متعة دخول حدائق ذات بهجة للناظرين.

وحين دخلت عالم الصحافة تذكرت صديقي البليهي ما فعل الفيلسوف ابن طفيل، صاحب كتاب حي بن يقظان مع ابن رشد، حين قدمه للملك الموحدي أبو يعقوب؛ فخشي على نفسه، ولم يصرح بآرائه في جو من التشدد والتعصب، حتى ألان له الملك الموحدي الكلام، وأفسح له في المجلس، وأمّنه على نفسه، فانطلق يغرد قبل هبوب العاصفة.

وكذلك كان البليهي معي، حين قدمني للكتابة في جريدة «الرياض» وأعطوني صفحة بكاملها تحت عنوان حروف وأفكار، فكتبت فيها 235 مقالة قبل أن انتقل إلى «الشرق الأوسط»، فأكتب فيها أكثر من 320 مقالة. وكانت المقالة في «الرياض» منذ أن بدأت فيها في عام 1993م في أكتوبر استنفارا كبيرا واعتكافا في مكتبتي أسبوعا كاملا، مع صفوف لاتنتهي من المراجع والكتب والمجلات مكدسة مبعثرة. وكانت المقالة بالهوامش والمراجع ورقة عمل حقا   ) كما يسمونها في العمل الأكاديمي Paper وأحيانا كانت ( تتجاوز 4000 كلمة، وكنت أطور فيها، وعملتها في النهاية على شكل كوانتوم، من عشر دفقات من الفكر بعناوين متفرقة.

وفي «الشرق الأوسط» كانت المقالة بدون مراجع، ومقتضبة وغير طويلة؛ فاختلف الموضوع، قبل أن أدخل عالم الزاوية أو العمود، كما حصل معي مع زاوية العلم والسلم في الاقتصادية. والحاصل كانت المقالات الأولى رحلة نصب وعذاب، ومراجعة عشرات المصادر، وكنت في مكتبي، بعيدا عن أسرتي وأهلي، وأسهر حتى ساعات متأخرة من الليل، حتى تولد المقالة، فأهرع إلى زوجتي رحمة الله عليها، أتلوها عليها، ثم تعدل وأحيانا عشرات المرات، وأعرف تماما معنى حرية التعبير؛ فحين يكون العلم سلما يتدفق ينابيع تنبجس، وأما السياسة ونزاعاتها فلا طائل تحتها، وهي قنابل للجميع تفجر مصير أكثر من الكاتب والمحرر.

ويسألني الكثيرون من ذاكرتي من أين؟ وأنا أعترف لهم بأن ذاكرتي أخذتها من والدي، الذي كان يكرر رقم تلفون بسبعة أرقام من مرة واحدة يسمعها وهو في عمر التسعين، ولعل سرها في بروتينات الدماغ، ولكنه قبل ذلك الجهد الخالص والتدريب الشاق. وأذكر من شبابي أنني كنت أحفظ كتبا كاملة عن ظهر قلب، وفي امتحان التاسع نهاية المرحلة المتوسطة (البروفيه) كنت أنقش من الذاكرة وكأنها كتاب مفتوح، حين كان السؤال حول لقاء تيتو وعبد الناصر في اجتماع جزيرة بريوني، وكلها من خرابيط وكذب الساسة الدجالين. ولذلك كانت مستودعات الذاكرة عندي مخيفة حاضرة مليئة بالأراشيف والأرقام، وتزداد كثافة وتشابكا كل يوم.

وخلاصة ما نصل إليه أن سر الأمور هو في: تدريب من الصغر، وزمن ممتد، وهمة واستنفار، وتفرغ مكين، وخلو الذهن من الهم والحزن كما قال ديكارت عن تجربته في مدينة أولم من جنوب ألمانيا، وهو يضع منهجه في اليقين في الوصول إلى الحقائق. واعتزال محدود، ودماغ جيد نشط، وتغذية معتدلة، وإشباع للغرائز، حتى تلين الكلمة للكاتب، والفكرة لصاحب القلم، كما ألان الله الحديد لداوود، وباحت  الطبيعة بأسرارها لداوود فكان يسبح معه الطير والجبال بالعشي والإشراق، وأجرى النحاس لسليمان، فأسال له عين القطر، والجن يعملون له عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين.

 

نافذة:

كما كان المجهول في الجغرافيا جاهزا لرحلات الاكتشاف فإن دهاليز العقل أعقد وخبايا الفكر أكثر ويحتاج إلى تدريب ومن سنوات اليفع الأولى

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى