تدبير الزمن القضائي ما بعد كورونا
يونس قاجو مستشار لدى محكمة الاستئناف بطنجة عضو المكتب المركزي للودادية الحسنية للقضاة
يعتبر عنصر الزمن القضائي أحد المقومات الرئيسية للعدالة الناجعة، ذلك أن تعطيل مصالح المتقاضين بعدم تمكينهم من حقوقهم داخل آجال معقولة، يضرب في العمق حقهم الدستوري في التقاضي، بل يشكل لا محالة وجها من وجوه اللاعدالة، فالمفهوم الجديد لاستحقاق الحقوق أضحى يتجاوز مجرد تمكين صاحب الدعوى من حقه، بل أصبح ينفرد بعنصر الزمن كمحدد رئيسي في عدم إهدارها.
ولعل تضمين البت في الدعاوى المعروضة على القضاء داخل آجال معقولة بنص الدستور، ما هو إلا تأكيد على سمو هذا المبدأ ومكانته الرفيعة، ينضاف إلى باقي مقومات النجاعة القضائية.
وليس يخفى على الجميع ما شكل هذا الموضوع باستئثار وطني بالغ الأهمية من قبل جميع القيمين على شؤون العدالة والقضاء ببلادنا، لدرجة تناوله غير ما مرة وعلى أكثر من صعيد.
وبه كان الحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة محطة قوية لتسليط الضوء عليه، بغاية البحث عن مخارج تشريعية للحيلولة دون إطالة لأمد عمر القضايا دون مسوغات، قد تكون في بعض الأحيان غير مبررة أو معقولة، إما لإكراهات مرتبطة بنوعية القضايا التي يتطلب بشأنها استيفاء إجراءات وتدابير خاصة نوعا ما، كالقضايا العقارية أو بعض الملفات المدنية… أو بسبب صعوبة التبيلغ لأطراف الخصومة أو الشهود.
والأسباب هنا قد تتعدد، إلا أن ذلك لا يعني أن التطبع مع مثل هذه الإشكالات العملية، وعدم محاولة الاجتهاد لإيجاد حلول عملية تنسجم مع القانون وروحه من جهة، ولا تضر بمصالح أطراف الدعوى أو بمراكزهم القانونية والقضائية.
إلا أن بروز جائحة كورونا كأحد المعطلات الاستثنائية للمرفق القضائي، أملته ضرورة التماشي مع السياق الاستباقي لحالة الطوارئ الصحية، فرض تدخلا عاجلا وحكيما من قبل مؤسسة المجلس الأعلى للسلطة القضائية في شخص السيد الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية على مستويات متعددة الجهات، اتسمت بمبدأ التدرج في التعاطي مع المقررات التنظيمية، التي تهم التدبير المحكم للمرفق القضائي من خلال ضمان استمرارية الخدمة القضائية.
وكان ذلك من خلال الكتاب تحت عدد 151/1 المؤرخ في 16 مارس 2020، الذي تمحور حول تنظيم العمل بالمحاكم للوقاية من وباء كورونا، الذي حث فيه الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية المسؤولين القضائيين لدى محاكم الاستئناف والابتدائيات، من باب الحرص على سلامة مرتفقي العدالة والعاملين بها من قضاة ومساعدي القضاء، تعليق جميع الجلسات بالمحاكم ابتداء من يوم 17 مارس 2020، باستثناء قضايا المعتقلين والقضايا الاستعجالية، مع التأكيد عليهم بضرورة الحرص على التدبير الأمثل للموارد البشرية في حده الأدنى، مع ضبط عملية ولوج المرتفقين إلا للضرورة القصوى، بالإضافة إلى توجيههم للاطلاع على مآلات الملفات والإجراءات المتخذة، من خلال الموقع الرسمي للمحكمة المعنية.
هذا الأمر يعكس دون شك مواكبة نظامية لحسن تسيير الشأن القضائي بالمغرب، في ظرفية استثنائية غير مسبوقة تعرفها البلاد، لتكون السلطة القضائية في الصف التفاعلي الأول مع الإجراءات العمومية لتدبير وضعية جائحة كورونا «كوفيد- 19»، وبما يحفظ نفاذ القانون المتعلق بحالة الطوارئ الصحية، عن طريق تمكين المحاكم من عقد جلسات للنظر في مثل هذه القضايا، بما يتماشى مع سلطة القضاء في حماية المواطنين وتحقيق أمنهم الصحي والقانوني.
إلا أن ذلك لا يعني الاكتفاء بهذه الإجراءات الاحترازية، دون مواكبة للتطور الوبائي بالمغرب، إذ إنه تم توجيه كتاب ثان وفي مدة زمنية قصيرة، أي بتاريخ 23 مارس 2020 تحت عدد 113/3، الذي طلب فيه من كل من السادة رؤساء الهيئات القضائية ورؤساء المحاكم المختصة بالبت في قضايا المعتقلين بالجنايات والجنح أو التحقيق، أن يعملوا ما بوسعهم حماية لصحة السجناء من خلال تفادي إحضارهم من المؤسسات السجنية إلا عند الضرورة القصوى، من خلال البت في تأخير ملفاتهم دون حضورهم ولحين انتهاء الحجر الصحي، دون إغفال منع اتصالهم بالغير، في حال إحضارهم للضرورة القصوى داخل فضاء المحاكم.
هذا الأمر ابتغي منه إعطاء أولوية حمائية ذات بعد مقاصدي، يدفع في اتجاه جعل دور المحاكم لا يقتصر على إنتاج عدالة فعالة، بقدر ما يؤسس لعدالة آمنة ومواطنة، مسايرة لكل التدابير الحكومية المتخذة، تنفيذا للتعليمات الملكية السامية لمواجهة الجائحة.
لتأتي مذكرة ثالثة تحت عدد 119/13، بتاريخ 14 أبريل 2020، لتهييء الملفات لمرحلة ما بعد رفع حالة الطوارئ الصحية، من خلال وضع إعداد مسبق لتصور عملي حول التداعيات الآنية والمستقبلية لوباء فيروس كورونا المستجد، عبر آلية الحكامة القضائية، لسد كل جوانب التعثر للخدمات القضائية، وفق مقاربة تشاركية مما يفرض معه لكل ذلك محاولة إيجاد حلول ناجعة ومخارج آمنة لكيفية تدبير الملفات المعروضة أمام القضاء، تفاديا لأي مخلف من الملفات أو تراكم محتمل قد يعطل مصالح المواطنين في استحقاقاتهم القضائية ضمن آجال معقولة، مع احترام تام للضمانات التشريعية لأطراف الخصومة القضائية كيفما كانت طبيعتها.
الشيء الذي يفرض معه البحث في أغوار قوانين للمساطر القانونية المدنية منها والجنائية، والبحث عن سبل تجاوز كل ما من شأنه تيسير سبل نفاذها داخل آجال زمنية قصيرة، أو ما يمكن تسميته بـ«الاجتهاد الإجرائي» لتدبير عمر القضايا والذي لا يمكن أن يتأتى، إلا بتضافر جهود جميع مكونات أسرة العدالة لاستحقاقات ما بعد زمن كورونا، وتمكين الإدارة القضائية من السهر المباشر على مراقبة تجهيز الملفات، دون إغفال اشعار مؤسسة المجلس الأعلى للسلطة القضائية بكل ما من شأنه تعطيل هذه العملية، مع إشراك السادة رؤساء الهيئات لوضع تصوراتهم عن كل شعبة، وإعداد تقارير فورية بشأن ذلك.
ومنه أعتقد أن الواجب المهني يفرض على الجميع التفاعل مع المذكرات التوجيهية للمجلس الأعلى للسلطة القضائية المشار إلى مراجعها، تفاعلا يجسد حمولة المسؤولية وخصوصيتها، بعقد العزم من قبل جميع السيدات والسادة القضاة لبلورة تصور وطني قضائي مرده نفاذ القانون، بصيانة حق المواطن في عدالة زمنية وموضوعية في جميع الملفات العالقة من جهة، ودون إغفال الأدوار الطلائعية لمساعدي القضاء جميعهم دون استثناء، باعتبارهم ركيزة لا محيد عنها وإسهامهم الهام في العملية الإنتاجية للعدالة يقتضي ضرورة تمكينهم من كل الأدوات اللازمة لتسهيل مأمورياتهم، وفق القانون من جهة أخرى.