سهيلة التاور
ألف بيل غيتس، المؤسس المشارك لشركة «مايكروسوفت»، باعتباره لنفسه المدافع بالصوت الصريح عن البيئة، كتابا بعنوان «كيف نتجنب كارثة بيئية» (How to Avoid a Climate Disaster)، ومن خلاله أوضح كيف قرر تعزيز نشاطه البيئي وخفض الاستثمار في أنواع الوقود الأحفوري، حيث سحب جميع ممتلكاته المباشرة في شركات البترول والغاز في 2019.
وفي حوار مع كوني هيديجارد، وزيرة البيئة السابقة في الدنمارك، شجع غيتس على اعتماد الحكومات التكنولوجيا في مواجهة الكوارث البيئية وتطوير الابتكار العلمي لإيجاد حلول فعالة، وعرض بدوره حلولا للوصول إلى الطاقة النظيفة، موضحا الدور الذي لعبته جائحة كورونا في خفض نسبة التلوث بفضل الإغلاق الذي عرفته عدد من الدول حول العالم.
كوني هيديجارد: اسمح لي أن أبدأ باعتراف: لسنوات، كنت أظن أنك لا تهتم بشكل خاص بتغير المناخ.
والآن، ها أنت ذا تسوق الحجج القاطعة لصالح العمل المناخي العاجل. بدأت كتابك بوصف هذه الرحلة. في البداية، «كان من الصعب قبول حقيقة مفادها أنه طالما استمر البشر في إطلاق أي كمية من الغازات المسببة للانحباس الحراري الكوكبي، فسوف تستمر درجات الحرارة في الارتفاع». وبعد الرجوع إلى مجموعة من علماء المناخ «عدة مرات، بتساؤلات متابعة لا تنقطع»، بدأت الأمور «تتكشف» لي في النهاية. إلامَ تعزو مقاومتك الأولية، وكيف يمكن توظيف خبرتك لحمل الآخرين على المشاركة؟
بيل غيتس: أصبح العالم اليوم في مكان مختلف تماما عن ما كان عليه عندما بدأت أدرس تغير المناخ. فنحن نعرف المزيد الآن، وقد نجحنا في بناء الإجماع حول المشكلة. لكن لا يزال من الصعب على كثيرين قبول أن الاكتفاء بتقليل الانبعاثات، دون التحول إلى مسار يقودنا إلى خفض الانبعاثات إلى الصِـفر، ليس كافيا. من الصعب أيضا قبول كم يتطلب الأمر من إبداع وابتكار للوصول إلى الصِـفر ــ لإعادة تشكيل صناعة الطاقة جوهريا، وهي أكبر نشاط تجاري في العالم. في الكتاب، أعرض الحجج التي أقنعتني، وآمل أن تقنع آخرين. وأود أن أحث دعاة العمل المناخي على الاستمرار في الدفع بالحجج لصالح ضرورة الوصول إلى الصِـفر وتقليل الانبعاثات على النحو الذي يضعنا على ذلك المسار.
أحث دعاة العمل المناخي على الاستمرار في الدفع بالحجج لصالح ضرورة الوصول إلى الصِـفر وتقليل الانبعاثات.
التشجيع على الطاقة النظيفة..سياسة جديدة
كوني هيديجارد: من القياس الذي استخدمت فيه حوض الاستحمام إلى قصتك الرمزية حول الأسماك، من الواضح أنك تكرس قدراً كبيراً من الاهتمام لجعل المفاهيم المجردة أو البيانات المعقدة أكثر واقعية وتماسكا ويمكن الوصول إليها بسهولة. هل تعتقد أن هذا النهج هو المفتاح إلى تغيير عقلية أولئك الذين ما زالوا حتى الآن يعتقدون، على الرغم من الحقائق والبيانات العلمية، أننا نستطيع مواصلة العمل كالمعتاد؟ وهل ساعدتك أساليب مماثلة في عملك لدفع الحدود التكنولوجية في شركة ميكروسوفت أو النهوض بالصحة العالمية والتنمية في مؤسسة غيتس؟
بيل غيتس: على الرغم من أن الكتاب ليس موجها نحو المتشككين في تغير المناخ تحديدا، فإنني آمل بكل تأكيد أن يقنعهم بأننا في حاجة إلى الاستثمار بجدية في الطاقة النظيفة. وسوف تكون البلدان التي تبذل قصارى جهدها لرعاية الإبداع والابتكار في هذا المجال موطنا للجيل القادم من الشركات الرائدة ــ إلى جانب جميع الوظائف والأنشطة الاقتصادية التي تصاحبها. ولهذا السبب، تُـعَـد هذه الاستثمارات التصرف الذكي الواجب، حتى لو لم تكن مقتنعا بالحقيقة الواضحة التي تؤكد أن البشر يتسببون بأنشطتهم في إحداث التغيرات المناخية التي ستخلف عواقب وخيمة إذا تُـرِكَـت دون تصحيح أو مراقبة.
كوني هيديجارد: الواقع أن جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) لم تسلط الضوء على التكاليف المترتبة على تجاهل العِـلم وحسب، بل وأثبتت أيضا أن التغير السلوكي السريع الواسع النطاق ممكن، وأظهرت أن القادة الذين يتحملون المسؤولية عن معالجة المشكلات يكتسبون الاحترام. ولكن كما أشرت، حملت لنا الجائحة أيضا درسا مهما آخر: فقد أوضح الانخفاض البسيط نسبيا بنحو 10 بالمائة في الانبعاثات الغازية المسببة للانحباس الحراري الكوكبي نتيجة لعمليات الإغلاق العالمية أن التغيرات السلوكية، مثل التقليل من السفر جوا أو قيادة السيارات، ليست كافية. فهل تعلمنا دروسا أخرى أثناء الجائحة تنطبق على تغير المناخ؟ وكيف يمكننا توظيف هذه الدروس في العمل المناخي على أفضل وجه؟
بيل غيتس: يشكل أحد الدروس الجانب الآخر لفكرة أن التقليل من السفر جوا أو قيادة السيارات لا يكفي: فنحن في حاجة إلى قدر هائل من الإبداع حتى يتمكن الناس من السفر جوا أو قيادة السيارات، والمشاركة في الاقتصاد الحديث دون التسبب في إطلاق الانبعاثات الغازية. وهذا في حقيقة الأمر تحد أشد صعوبة من تصنيع وتوزيع لقاحات كوفيد-19 (وهي حملة الصحة العامة الكبرى على الإطلاق).
لكن الأمر يتطلب النوع ذاته من التعاون الوثيق بين الحكومات على المستويات كافة، وكذا مع القطاع الخاص. وتماما كما يتعين علينا جميعا أن نضطلع بأدوارنا من خلال ارتداء أقنعة الوجه والامتثال لقواعد التباعد الاجتماعي، يجب على الأفراد أيضا أن يضطلعوا بدورهم في الحد من الانبعاثات. وبوسعهم أن يدعوا إلى سياسات تعمل على التعجيل بالتحول إلى صافي الانبعاثات صفر، كما يمكنهم العمل على تقليل العلاوة الخضراء من خلال شراء منتجات منخفضة أو عديمة الكربون مثل السيارات الكهربائية والبرجر النباتي. وهذا من شأنه أن يؤدي إلى اجتذاب المزيد من المنافسة في هذه المجالات ويجعل تحولها في النهاية إلى الإنتاج الأخضر أرخص تكلفة.
التكنولوجيا..الحل السحري
كوني هيديجارد: أنت تزعم أن التصدي لتغير المناخ، مثله في ذلك كمثل إنهاء الجائحة، يتوقف إلى حد كبير على الـعلم والإبداع. وأنت في مجمل الأمر «متفائل بقدرتنا على اختراع الأدوات التي نحتاج إليها، ونشرها، وتجنب كارثة مناخية، إذا تحركنا بسرعة كافية». فما الخبرات أو الدروس التي غرست فيك هذا الإيمان؟
بيل غيتس: رأيت شخصيا كيف يمكن أن تساعد الاستثمارات في مشاريع البحث والتطوير في تغيير العالم. فبفضل الأبحاث التي رعتها حكومة الولايات المتحدة والشركات الأمريكية أصبح من الممكن ظهور الـمعالجات الإلكترونية الدقيقة وشبكة الإنترنت، التي أطلقت العنان لقدر هائل من طاقة المشاريع الرائدة لإنشاء صناعة الكمبيوتر الشخصي. على نحو مماثل، قادتنا الجهود التي بذلتها حكومة الولايات المتحدة لرسم خريطة الجينوم البشري إلى اختراقات في علاج السرطان وغيره من الأمراض المميتة.
أما عن الوصول إلى الصفر، فأنا شخصيا أرى عملا رائعا. فقد استثمر صندوق مشاريع الطاقة الرائدة، وهو الصندوق الخاص الذي أنشأته بالتعاون مع عدد من الشركاء، في أكثر من عشرين شركة تعمل على ابتكار طرق منخفضة أو عديمة الكربون لتصنيع الإسمنت والصلب، وتوليد وتخزين كميات ضخمة من الكهرباء النظيفة، وزراعة النباتات وتربية الحيوانات، ونقل الأشخاص والسلع حول العالم، وتدفئة وتبريد المباني. الواقع أن العديد من هذه الأفكار لن تتحقق على أرض الواقع، لكن تلك التي ستتحقق من الممكن أن تغير العالم.
كوني هيديجارد: ولكن كما تلاحظ فإن «الإبداع ليس مجرد مسألة تطوير أجهزة جديدة. بل ينطوي الإبداع أيضا على تطوير سياسات جديدة تسمح لنا بعرض ونشر هذه الاختراعات في السوق في أسرع وقت ممكن». والآن بدأ الاتحاد الأوروبي (والصين أيضا) الانخراط في مثل هذا الإبداع في وضع السياسات.
في محاولة لتصحيح هيكل الحوافز المعيب الذي فشل في وضع ما سميته «العلاوات الخضراء» في الحسبان، أدخلت العديد من الدول الأوروبية آليات لفرض ضرائب على الانبعاثات من ثاني أكسيد الكربون، وإهدار الموارد، والتلوث. ولكن هل تعمل مثل هذه السياسات على تغيير هيكل الحوافز بشكل حقيقي؟ وهل تساعد آلية تعديل الحدود الكربونية في دفع عجلة التقدم؟
بيل غيتس: يشكل تحديد سعر للكربون إحدى السياسات التي ستحدث فارقا واضحا، كجزء من نهج شامل حيث يتمثل الهدف في زيادة المعروض من اختراقات الطاقة النظيفة والطلب عليها. وفي الكتاب، أذكر مجموعة واسعة من أفكار أخرى. على سبيل المثال، يتمثل أحد التدابير التي يمكن أن تتخذها الحكومات لتوسيع المعروض من الإبداع في توسيع تمويل مشاريع البحث والتطوير في مجال الطاقة النظيفة بشكل كبير. (وأنا أوصي بزيادة قدرها خمسة أضعاف). وعلى جانب الطلب، بالإضافة إلى سعر الكربون، هناك أمور مثل وضع المعايير لتحديد الكم من الكهرباء أو الوقود الذي يجب أن يأتي من مصادر خالية من الكربون.
نحن في حاجة إلى الإبداع في وضع السياسات بقدر ما نحتاج إليه في التكنولوجيا. لقد رأينا كيف اجتمعت السياسات والتكنولوجيا لحل مشكلات ضخمة من قبل. وكما وثقت في الكتاب، يُـعَـد تلوث الهواء مثالا عظيما؛ فكان أداء قانون الهواء النظيف في الولايات المتحدة طيبا للغاية في إخراج الغازات السامة من الهواء. وتشمل حلول سياسية أخرى فَـعّـالة للغاية في الولايات المتحدة كهربة الريف، وتوسيع أمن الطاقة، وإشعال شرارة التعافي الاقتصادي بعد الركود العظيم في عام 2008. ونحن الآن في حاجة إلى تحويل سياسات العالم وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي نحو القضاء على الانبعاثات. ويعمل فريقي في «مشاريع الطاقة الرائدة»، شبكة المبادرات التي أنشأتها للتعجيل بالانتقال إلى الطاقة النظيفة، بكل جدية وحماس لتطوير سياسات جريئة قادرة على تحقيق أهداف المناخ العالمية.