شوف تشوف

الرأي

تحرير أهداف القرآن

كيف نحدد موقفنا في قضية التفسير العلمي في القرآن الكريم؟ وموجة تحميل الآيات لكل كشف علمي جديد، بأن هذا ماعنَاه القرآن الكريم؟ هل يمكن توريط الآية في معنى محدد كشف عنه العلم الحديث؟ فنراهن على أن هذا ما عنته الآية تحديداً؟ أليس في هذا خطر كبير وخطأ قاتل؟ وتحجيم اللانهائي في النهائي؟
لعبة توليد المعاني من الألفاظ
في لعبة توليد المعاني من الألفاظ يمكن أن يحدث كل شيء، مثل الساحر في السيرك يخرج الأرانب والمناديل من القبعات.
شرح لي أحدهم آية (ومعارج عليها يظهرون) بأن المقصود منها صواريخ اكتشاف الكواكب؟!
تناول الطبيب والمفكر (محمد كامل حسين) هذه الظاهرة منذ زمن بعيد أنها بدعة حمقاء، وتفاءل كثيراً بعد مقالته أن يكون قد وأد هذه البدعة، والكاتب متوفى رحمه الله، وكان جراح عظام ورئيس جامعة عين شمس في القاهرة، ولكنه دماغ عبقري مجهول وتحدث عن هذه الإشكالية في كتابه (متنوعات) في الجزء الثاني ص 29 (أنه لم يحملهم على القول بالتفسير العلمي للقرآن إلا رغبتهم في الدفاع عن التنزيل الحميد) ويرى أن العلم يتعلق بالطبيعيات، وهي أسهل كشفاً من قوانين الحياة والإنسان، وهي من غير شك دون قوانين النفس البشرية والغيب والإلهيات، والكتب المنزلة تتعلق أصلاً بهذه الأمور؛ فليس لها بالعلم الحديث صلة، ولا يضيرها في شيء أن تكون بمعزل عن هذه العلوم (انظر نفس الكتاب ص 30).
ويعجبني أيضا ما كتبه المفكر الجزائري (مالك بن نبي) عن الفرق بين ما يبحثه القرآن، وما يعمل عليه العلم؛ فالقرآن وظف نفسه ليس للكشف أو البحث في القضايا العلمية من فيزياء نووية وكوسمولوجيا وأنثروبولوجيا، بل كان جل اهتمامه مصبوباً على إيجاد المناخ العقلي، الذي يوفر الجو الصحي لنمو كل العلوم بشكل تراكمي سليم.
ويعجبني ثالثاً (الصادق النيهوم) الكاتب الليبي ـ رحمه الله ـ حينما اعتبر القرآن أعظم كتاب بحث مشكلة تحرير الإنسان من خلال مفهوم التوحيد، أكثر من بحث أي كتاب آخر، وأكثر من الالتفات لأي قضية أخرى.
العلم وفلسفة العلوم (الابستمولوجيا)
حرص (المعهد العالمي للفكر الإسلامي) في ما سبق على أن يطرح إشكالية حاول حلها لامتصاص صدمة الحداثة أو ما سماها (أسلمة المعرفة) وهناك في السوق مجلة اطلعت عليها للمعهد كانت تحمل عنوان (إسلامية المعرفة).
وفي قناعتي أننا يجب أن نفرق بين (العلم) و(فلسفة العلم) والفكر الإسلامي التنظيري يجب أن يعمل في الحقل الثاني: فلسفة العلوم أو ما يطلق عليها حالياً الابستمولوجيا (EPISTEMOLOGY).
ولفهم هذا المصطلح تماما يراجع في هذا كتاب (مدخل إلى فلسفة العلوم ـ أبحاث في الابستمولوجيا المعاصرة) للمؤلف محمد عزام ـ نشر دار طلاس ـ دمشق ـ ص 10، وكذلك فلسفة العلوم للمفكر المغربي الجابري، والمصطلح اشتق من كلمتين يونانيتين (EPISTEME) ومعناها علم و(LOGOS) ومعناها علم أو نقد فالابستمولوجيا من حيث الاشتقاق اللغوي هي علم العلوم أو الدراسة النقدية للعلوم. أما معجم لالاند فيعرفها بأنها فلسفة العلوم
لعلي أنا شخصياً كنت من رواد إيجاد معادلة أو صيغة ندخل بها العقل المسلم الحداثة والمعاصرة، والاطلاع على العلم الحديث، وربط ذلك بالإيمان؛ فكتبت جزءين من كتاب يجمع بين الطب والإيمان (الطب محراب للإيمان) أما الأول فقد صدر كرسالة تخرج من كلية الطب عام 1971م، وأما الثاني فكتبته في ظروف معاناة (اعتقال في فرع المخابرات العامة 273) استغرقت 250 يوماً، وظهر إلى النور عام 1975 م (نشر دار مؤسسة الرسالة) لمن يريد الاطلاع، ثم صدر لي كتاب ثالث في هذه السلسة بعنوان (العصر الجديد للجراحة.. من جراحة الجينات إلى الاستنساخ الإنساني) إصدار دار الفكر – بيروت. أما الرابع فصدر مع عاصفة الإيدز بعنوان (الإيدز طاعون العصر) نشر دار الهدى – الرياض.
وخلال ربع القرن الفائت تطور معي الموضوع بشكل كبير، حتى أصبحت موسوعة تضم أكثر من عشرين مجلدا، كان من المفروض في دار العبيكان أن تنشره بموجب عقد ولكن لم تولد الموسوعة حتى اليوم.
غائية الخطاب
صحيح أن هناك من (التوافق) اللافت للنظر في بعض الآيات القرآنية عن حقائق علمية تم اكتشافها مثل: كروية الأرض (يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل – سورة الزمر الآية 5). ومثل: انخفاض مستوى الأكسجين في الارتفاعات (ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجا كأنما يصَّعد في السماء – سورة الأنعام الآية 125). ومثل: الحياة من الماء (وجعلنا من الماء كل شيء حي) سورة الأنبياء الآية 20.
ولكنها جميعا عرضية ولم يوردها القرآن بشكل أساسي أو يتجه نحوها بالخطاب أنه يريد منها صياغة علمية محددة تتجه إلى كشف ما تحتها من سر فيزيائي أو فلكي. الآية أرادت شيئاً آخر غير ما يريده أصحاب التفسير العلمي ففي الآيات الثلاث نهايات تحدد غائية وقصد الآية وإلى أين تتجه.
تأمل النموذج الأول: كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار، وتأمل الثاني: كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون. وتأمل النموذج الأخير: أفلا يؤمنون؟ الآيات الثلاث أرادت أن تبني الإيمان بطريقتها الخاصة، واستخدمت الطبيعة كأداة في الدلالة.
الآية لم تعن بشكل قطعي ونهائي كروية الأرض، ونقص الأكسجين في الأعالي، وصيرورة الحياة من الماء.
القرآن يهدف لتحريك العقل وتأمل الوجود واكتشاف أسراره الدفينة بدون توقف. الطبيعة كتاب لا نهاية لكلماته، ولو تحولت البحار إلى (محبرة) هائلة، وأشجار الأرض إلى أقلام تسطير؛ لفنيت الأقلام وجفت البحار، ومازال هناك متسع لمزيد من الكتابة.
إذا قدم العلم بعض الإنجازات في الكشف عن زوايا معرفية تتفق مع عموم الآية فلا حرج، ولكن يجب أن نكون أكثر من حذرين في تحجيم الآية بقدر الكشف العلمي. يمكن أن نقول إن هذا اتفاق مدهش، ولكن لا يعني بالضرورة الحقيقة النهائية المطلقة، لآية أخذت أبعادها بحجم المفهوم العلمي تعييناً.
أما تدشين اتجاه كامل عن الإعجاز العلمي، والركض خلف العلوم والآيات وأيدينا مشرعة نصيح: لقد سبقتكم الآية بالكشف، إنها موجودة في القرآن، إن القرآن منزل من عند الله، والإسلام صحيح بموجب هذه الأدلة‍؟ فهذا يحمل مجموعة من الأخطاء القاتلة، وليس أضر على قضية رابحة مثل الدفاع الفاسد عنها كما يقول الدكتور (محمد كامل حسين).
مظاهر للهزيمة الروحية
هذا الاتجاه يحمل كل معاني الهزيمة الروحية؛ فنريد أن ندلل على صحة قضيتنا بما أنتجه مخالفنا، في الوقت الذي نريد إبطال دعواه، والتظاهر بالتفوق عليه.
نحن نختلف مع الغرب، ولكن نريد أخذ شهادة صدق للمقدس عندنا، مما وصل إليه الغرب. أي أن دليل الحقيقة عندنا، ولكن مصدر توثيق الحقيقة هو من عندهم.
نحن نمشي إلى الخلف، نحن نتسلق الظلال، نحن نعالج القصر بلبس بدلة طويلة. وتنسحب هذه الهزيمة على جيوب كثيرة؛ فعندما نعاني من الهزيمة الحضارية نريد أن نقنع أنفسنا أننا بخير، وأن كل ما ينتجه الآخر لا يزيد عن تكرار الحقائق التي جاءت من عندنا. هو يتعب ليصل إلى ما ثبتناه نحن وأنتجناه، وهي أكبر من خرافة وأعظم من هلوسة.
إذا كان كل ما ينتجه الغرب هو من عندنا فلماذا التعب إذاً؟
إنها فكرة مريضة تعطل كل جهد واجتهاد ونمو!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى