شوف تشوف

الرأيالرئيسية

بين عقم السياسة وجدواها

ظهر قانون باركنسون في الأصل عام 1955، في كتابه «قانون باركنسون ودراسات حول الإدارة». هذا المحلل الإداري المشهور لاحظ أنه كلما كانت المؤسسة أكبر زاد الوقت والطاقة التي تنفقها على القضايا الثانوية، بدلا من القضايا المهمة الحرجة. ووفقا لنظرته التي استنبطها من مراقبته عن كثب للطبقة البيروقراطية البريطانية، فإن هذا يرجع إلى أن المشكلات الأكبر غالبا ما تكون أكثر تعقيدا وتتطلب مزيدا من العمل لحلها، فيما يمكن بسهولة فهم المشكلات الثانوية ومناقشتها بسرعة.

في عالم السياسة، غالبا ما يتم تطبيق قانون باركنسون على الطريقة التي يقضي بها السياسيون وقتهم في مناقشة القضايا الجانبية، بدلا من معالجة القضايا الأكبر. على سبيل المثال، قد يستغرق النقاش حول مدارات إشارات الطرق وقتا وطاقة أكثر، من النقاش حول السياسة المالية أو سياسة الصحة العامة.

هدف هذا التحليل هو فهم العبث المتأصل في المجال السياسي، من خلال قانون عدم الجدوى، الذي ينص على أن بساطة موضوع النقاش تؤدي إلى زيادة تعقيد وطول وعقم التلاسنات السياسية. وتفسر هذه الظاهرة، حقيقة أن الموضوع الذي يسهل فهمه يفتح الباب أمام تكاثر الخطاب السطحي حول التفاصيل غير المجدية، في حين أن الموضوع المعقد الذي يتطلب خبرة متخصصة، محجوز لدائرة من النخبويين.

على سبيل التوضيح، يستحضر باركنسون نقاشا محليا يتعلق بمرأب للدراجات، حيث يضيع المشاركون وقتا ثمينا في مسائل تحديد مكان المرأب وسعته وحتى لونه، مما يحيل على السؤال الأساسي حول فائدة هذه المعدات. من ناحية أخرى، فإن النقاش حول بناء مفاعل نووي ضخم يتطلب خبرة متخصصة سيجعل من الممكن الحد من التعليقات غير المجدية، لصالح التفكير المتعمق بقيادة الخبراء في هذا المجال.

من خلال ملاحظة الخطابات السياسية الحالية، غالبا ما يقدم القادة الحزبيون أنفسهم على أنهم شبه معصومين من اقتراف أخطاء التدبير، ويتمتعون برؤية قادرة على توجيه فريقهم السياسي نحو النجاح. مع أن الشعارات الانتخابية تشهد على العكس، حيث تكشف مع مرور الزمن عن رؤية مبسطة ومختزلة للسياسة.

بالإضافة إلى ذلك، فإن الصياغة الدعائية لـ«برنامج اجتماعي اقتصادي حقيقي»، من قبل كل مرشح للانتخابات، يعهد بها في الخفاء إلى خبراء في التسويق السياسي، يدبجونها دون تماسك نسقي وتكون مفتقرة لطموح فعلي ملموس. ومن ثم تصير وعود هذا البرنامج، أو ذاك، ليس لها أي صلة بنتائج الانتخابات المحصلة، بل تتم إزاحتها إلى الخلفية لصالح الصور الملمعة للمرشحين ومواقعهم الجديدة.

المعلوم بالضرورة أن الوظيفة السياسية تتمثل أولا وأخيرا في إيجاد الحلول العاجلة، بل في اختيار الحل الناجع الذي يقبله ويرضي انتظارات الرأي العام، عند كل أزمة، والذي تمكن ترجمته إلى قرارات تشريعية أو تنظيمية أو تنفيذية. وبالتالي، غالبا ما يعاني التواصل للحكومات المنتخبة من عدم الوضوح والتماسك، وهكذا تبتعد الحكومات أحيانا عن احترام تنزيل مقتضيات القوانين المؤجلة، وتتماطل بتأخير جزء من مهام المؤسسات الحيوية، مما يؤجج أحيانا معارضة سياسية وإعلامية متواصلة.

ومع وصول الشبكات الاجتماعية، أصبح الوضع أكثر التباسا، حيث صارت انزلاقات السياسيين ونوادرهم في متناول الجميع، وتركوا للمحرومين من الزاد المعرفي، الثرثرة حول أكثر القضايا خطورة، مثل المعالجة الفكرية والثقافية لظاهرة التشدد والإرهاب، والسجالات المذهبية المتعصبة، والمناقشة القانونية لأزمة السكن، ولعدم كفاية نظام التعليم الأساسي، أو لإشكالية البطالة إلخ. وقد أصبح النقاش العام هرجا وفوضى، يلعب في حلبته ساسة ملتحقون غير مؤهلين ومواقع الإعلام الإلكتروني الطفيلي دورا رئيسيا، وهكذا يضحى صوت معاناة الناس البسطاء غير مسموع، أو يتم تجاهله وسط الضوضاء.

تسليط الضوء على عقم السياسة، وإفراغها من معناها النبيل، ينطبق على الوضع المتأزم في بلد وضعت عليه آمال كثيرة في التحديث الاقتصادي كتونس. فعلى الرغم من مطالبة المواطنين بإصلاحات اقتصادية وإدارية وحرية التعبير، استجاب السياسيون وعجلوا بمراجعة الدستور والترسانة القانونية، بدلا من الاستجابة للمطالب الاجتماعية الحيوية المصيرية. هل كان هذا يرجع إلى نقص المهارات والخبرة في إدارة الشؤون العامة وتطوير ثقافة ديمقراطية حقيقية؟ الذي بدا أن الخلافات السياسية سادت وطغت على حل القضايا الاجتماعية، مما أدى إلى سوء الإدارة وأزمة اقتصادية وسياسية مستمرة حتى يومنا هذا.

الرئيس الحالي، الذي جمد أخيرا البرلمان وأقال الحكومة، فشل أيضا في إخراج البلاد من الأزمة. طريقته في الاستشارة الشعبية ومراجعة الدستور لم تحل شيئا، بل أوجدت ديكتاتورية تتلبس زيا دستوريا، وفاقمت الأزمة الاقتصادية والاجتماعية. كانت منذ صعود الاحتجاجات، في ذلك البلد الصغير، الحاجة ماسة إلى التركيز على المطالب الاجتماعية الملحة، بدلا من الجوانب القانونية للسياسة، وتعزيز مشاركة جيل جديد من السياسيين والمواطنين لمجابهة التحديات المستقبلية التي تواجه بلد أشرف على حافة الانهيار.

جمال أكاديري 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى