بين سلطان الدولة وسلطان الفكر
لدى استقباله أمين سر «أكاديمية المملكة المغربية» الدكتور عبد اللطيف بربيش، نصحه الملك الراحل الحسن الثاني بأن يوجه دعوات حضور وقائع جلساتها الفكرية إلى الوزراء والمستشارين وكبار الضباط العسكريين والمسؤولين الأمنيين. واستدرك بأن تلك الجلسات والقضايا التي تدرسها يجب أن تكون مدرسة في إغناء المعارف المتجددة.
قد يغيب عن أذهان كثيرين أن مسألة اللغة العربية والانفتاح على ثقافة العصر، والإفادة من خبرات وتجارب مفكرين وعلماء وذوي تخصصات متنوعة في الفكر والحضارة وامتلاك آليات التقدم، كانت من بين أهداف هذه المؤسسة الفريدة من نوعها، حتى أن الظهير المؤسس لها تحدث في إحدى فقراته على أن من مهامها: «السهر بتعاون مع الهيئات المختصة في الميدان المقصود، على حسن استعمال اللغة العربية بالمغرب، وعلى إتقان الترجمة من اللغة العربية وإليها، وإبداء الآراء السديدة في الموضوع».
وفي بند آخر، جرى التنصيص على: «تشجيع تنمية البحث والاستقصاء في أهم ميادين النشاط الفكري، علم العقائد والفلسفة والأخلاق والقانون، ومناهج الحكم والتاريخ والآداب والفنون الجميلة والرياضيات والعلوم التجريبية وغير التجريبية، والإدارة والاقتصاد والصناعة والتعمير والتقنيات التطبيقية».
منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي راودت الحسن الثاني فكرة تأسيس أكاديمية المملكة، على غرار كبرى الأكاديميات العالمية في باريس ولندن ومدريد وواشنطن، وفي كل مرة يحوز فيها دكتوراه فخرية من جامعات دولية مشهودة، تزداد الرغبة في تأمين إشعاع متجدد للثقافة المغربية ذات الأبعاد الإنسانية.
في ديباجة التأسيس تبرز مسألة في غاية الأهمية، ففي تلك المرحلة كان الانشغال الأساسي يتمحور حول صيانة الوحدة الترابية للبلاد، في ضوء استرداد الأقاليم الجنوبية، لذا فقد وصفت المراجع القانونية هذه المبادرة، بأنها تضافر القوى الفكرية، «لا يقل ضرورة بالنسبة للأمة عن وحدتها الترابية»، أي تسخير الحوار الحضاري والثقافي للدفاع عن القضايا المبدئية للدول والشعوب، والتأليف بين الأمم والحضارات، استنادا إلى رصيد المغرب وموقعه الاستراتيجي المتميز.
ليس أبلغ تعبيرا عن هذا التوجه من التأكيد الصريح بأن «سلطان الدولة يجب أن يعترف بسلطان الفكر، ويحيطه بما هو أهل له من إجلال وإكرام». وكم يبدو هذا التوصيف قويا في رجحانه، عندما تتعرض القيم والمفاهيم إلى أنواع من التبخيس والاحتقار والانزلاق في متاهات لا تعكس الصورة الحقيقية للمجتمع.
كشف لي الرجل الذي كان وراء كتابة الرسائل الأولى الموجهة إلى كبار الشخصيات الفكرية والعلمية، بغاية عرض فكرة الانضمام إلى عضوية الأكاديمية المغربية، أن الحسن الثاني خامرته حيثيات في أسباب نزول المشروع، كان من بينها اختيار مدينة فاس وجامعة القرويين تحديدا لاستضافة مقر الأكاديمية.
غير أنه من أجل تلافي مركزية النشاط الفكري لأكاديمية المملكة المغربية وعدم حصره في مكان محدد، سيتم التفكير في إمكان عقد دوراتها في أي مدينة مغربية، بل في عواصم أجنبية، طالما أن الأمر يتعلق بحوار حضاري، عماده مشاركة فعاليات فكرية وعلمية من مختلف أصقاع العالم إلى جانب أكاديميين مغاربة، من ذوي القامات الفكرية العالية، داخليا وخارجيا.
في ربيع العام 1980 عقدت أكاديمية المملكة المغربية أول دورة لها، في حضور رائد الفضاء أرمسترونغ والعالم الباكستاني إقبال والأكاديمي الفرنسي أندري مورياك، والمفكر الفلسطيني صدقي الدجاني، وعلماء في الدين والفكر والفلسفة والتاريخ والاجتهاد. واختارت قضايا فكرية وإنسانية شملت مفاهيم تقرير المصير في القانون الدولي والمرجعية الإسلامية وقوانين البحار وإشكاليات مذهبية وعصرية، شدت الاهتمام إلى الحضور الثقافي للمغرب.
بعد فترة وقف الحسن الثاني أمام قمة منظمة الوحدة الإفريقية في نيروبي، يعرض خطة بلاده لإنهاء الصراع المشتعل حول قضية الصحراء. ثم شرح أمام لجنة الحكماء الأفارقة معنى روابط البيعة والولاء التي تعتبر سابقة لمبدأ تقرير المصير بالنسبة لمستقبل الدول والشعوب. لحظتها سأله رئيس دولة إفريقية عن معنى البيعة، ورد عليه الملك الراحل بأن ليس من مسؤولياته السياسية أن يقدم دروسا في علوم السياسة والقانون.
تذكر كثيرون إحدى وقائع الجلسات السرية للمؤتمر الإفريقي، حين انبرت سيدة كانت تمثل بلدها للسؤال عن حدود المملكة، قال لها الحسن الثاني ما معناه أنه يقدر على إعطائها درسا في جغرافية وتاريخ بلدها. ويكفيها أن تحجز تذكرة سفر إلى المملكة على نفقة المغرب لتعرف ما معنى دولة المغرب.
فهم آنذاك أن معركة الدفاع عن الوحدة لن تتوقف عند المجهود الدفاعي والإنمائي الجبار الذي سيبذله المغاربة بكل قواهم الحية، عسكريا ومدنيا، بل لابد من زخم فكري يعاود تقليب المفاهيم والرؤى. وكان دور أكاديمية المملكة فاعلا بهذا الصدد، ومرة أخرى لأن سلطان الدولة من سلطان الفكر.