ما مـن معيار للتفرقة قاطع لدينا بين ما يقع في نطاق الكوني وما يقع في نطاق ما هـو من الخصوصيات. إن شئنا الدقـة أكثر نقول إن معيار التفرقـة بينهما يتأرجح بين حـدين: قطعي وظـني (بمفردات الفقـه).
ما يمكن تمييزه على نحو قاطع هو ما يقرره العقـل أو التجربة العلمية أو هما معا. أما ما يَعْسُر تمييزُه، بشكل قاطع، فهو ما يقع تعريفه من باب انطباقه أو لا انطباقه على المصلحة/المصالح؛ أي ما كان القول فيه جاريا على قاعدة الرأي أو الموقف، وبالتالي مما عد اختلاف الرأي فيه شأنا مشروعا أو، على الأقل، مفهوما بالنظر إلى اختلاف الدواعي الحاملة على كل رأي فيه أو تعريف له، أو قُـلْ بالنظر إلى اختلاف المصلحة من هـذا التعريف ومن ذاك لكل من الكوني والخصوصي.
لهذا تواجهنا أحوال من التجاذب والجدل – من قِـبل أفراد وجماعات ومؤسسات ودول…- حول موقع قيمة ما (أخلاقية، دينية، اجتماعية، اقتصادية، سياسية، ثقافية…) من أي من الدائرتين المتجادل حولهما (الكونية، الخصوصية)؛ أي إلى أي منهما تنتمي؛ وما المبدأ الذي تُـبْنَى عليه نسبتُها (= القيمة) إلى هذه الدائرة أو تلك. والغالب على ذلك الجدل والتجاذب أن يظل مفتوحا فلا ينتهي إلى القطع برأيٍ..؛ إذ هـو من نـوع الجدل الدائـر لا على مسائل خلافية فحسب، بـل على موضوعات يتعسر، تماما، اجتراح رأي واحد فيها، لأن الآراء فيها حدية، أي متناقضة. وهكذا فإن ما تحسبه جماعةٌ ما (دولة، منظمة دولية رسمية أو مدنية) قيمة كونية هو عند دول وجماعات أخرى غير كوني وينافـي الخصوصيات وينتهكها؛ وما تحسبه دولـة أو دول أو شعوب من صميم خصوصياتها من القيم تحسبه أخرى مناقضا للكونية وتحسب التمسك به نقضا للكونية وانتهاكا. وأكثر مشكلات العلاقات الدولية غير العسكرية، اليـوم، إنما مأتاه من هذا الخلاف الشديد على تحديد الكونية والخصوصية والتمييز بينهما.
على الرغـم من أن مثل هذا الجدل سيستمر، وقد لا يشهد فصلا ختاميا له، فإن ذلك ليس مدعاة لنفي إمكان وضع مائز ليس محل خلاف بين الكونية والخصوصيات. مثلا، مـن ذا الذي سيجادل في أن حقائق المعرفة العلمية تتمتع بعمومية تجعلها كونية لدى المجتمعات والشعوب والثقافات كافـة، سواء كانت معرفـة طبيعية (علوم تجريبية) أو معرفة عقلية (علوم رياضية)؟ وبالمثل، من ذا الذي سيجادل في أن اللغات، والفنون والآداب، والعادات والتقاليد، وطقوس الاحتفال، والطبخ واللباس وسوى هذه من المعطيات الثقافية هي مما ينتمي إلى الخصوصيات الثقافية..؛ بحيث لا سبيل إلى نسبة أي منها إلى الكونية إلا متى فاض عن حدوده الاجتماعية والثـقافية الأصل فأصبح عابرا لحدود المجتمعات والثقافات وموضوع تداول فيها؟
أما مبدأ التمييز بين المعرفة والثقافة ففي أن المعرفة – العلمية تحديدا- اكتـشاف لقوانين العالم المادي الموضوعي، وهذه عامة بالضرورة في الطبيعة والعقل، فيما الثقافة تعبير عن الذات (الفردية والجماعية)، والذوات متعددة والتعبير عنها متعدد ومختلف باختلاف الثقافات. لذلك تفتحنا المعرفة على الكوني، بينما تفتحنا الثقافة على الخصوصي. ومع أن المعارف العلمية هي نفسها – مثل المعطيات الثقافية – متغيرة بتغيـر نظامها الفرضي- التجريبي أو نظامها الأَكْسيومي، إلا أنها تظل كونية فلا تهبط مرتبتها إلى ما دون ذلك؛ أي إلى حيث تُـنْسَب إلى مجتمع بعينه (مثلا: علم أمريكي، أو علم صيني، أو أوروبي…) مثل الثـقافة. في المقابل، يسَع ثـقافة ما أن ترتفع مكانتها – كلا أو جزءا- إلى حيث تصير كونية؛ وذلك يحدث فقط حين تفرض قيمها نفسها على غير شعبها بأدوات الإقناع والجاذبية والإشباع، لا بوسائط الهيمنة والتسلط؛ أي حين تصير لها في العالم الواقعِ خارج موطِنها الأصل مقبولية عند مَن يتلـقـونها.
غير أن ثمـة كونية أخرى لبعض القيم التي لا تنتمي إلى المعرفة أو العلم، بل إلى ميدان الأفعال الإنسانية (الأخلاقية والاجتماعية والسياسية)؛ أي إلى الميدان الذي هو مسرح نزاعٍ على القيم بين الناس: أفـرادا ومجتمعات وأمما. ومع أنها تنتمي إلى هذه الدائرة المتنازع عليها، إلا أن بعض تلك القيم تحظى بصفة كونية ويُعتَرف بها بما هي قيم كونية. ولقد يكون بعضها في جملة قيـم أخلاقية في المنشأ، لكنها صارت، مع الزمن من قيـمِ السياسة والعلاقات السياسية الدولية؛ وربما كان معظم مبادئ القانون الدولي من هذا النوع الذي اشتق من قيم الحرية، والمساواة، والأخوة، والتعاون، والتضامن، والحق، والسـلام إلخ. ولو أخذنا مبدأً واحـدا من المبادئ الدولية السائدة، اليوم، مثل مبدأ حقوق الإنسان، لوجدنا أنه مشتق من كثير من تلك القيم. ولكن، كيف أمكن لما هو موضوع اختلاف أن يُعتَـرف به بوصفه كونـيا؟
من البيـن، في هذه الحالة، أن كونيته أتته من الإجـماع عليه، أي من تصييره قيمة عليا معترفا بها، مثلما أتتـه من حضوره في نسيج ثقافات عدة، حتى لا نقول كل الثقافات. ومع ذلك، فإن الاعتراف بكونية بعض القيم لا ينهي الجدال حولها بين المجتمعات والدول، بل تظل موضع نـزاع بينها على تعريفها وفقا لمصلحة كـل طرف…
عبد الإله بلقزيز