بلاد الرومي وطالبان
جهاد بريكي
«لا أدري ماذا سيفعل بي وبالنساء اللواتي مثلي، ربما سنقتل، ربما سنختطف. لا يمكنني أبدا توقع القادم من الأحداث». كانت هذه كلمات سيدة أفغانية تعمل كمدرسة وناشطة نسوية بكابل عشية تولي طالبان الحكم. تُحدث مراسلا أمريكا بوجه لا ملامح فيه يضع الكثير من المساحيق وبذلته تلمع كناصيته. يسألها أسئلة جافة دون أدنى شعور بمأساة هذه المرأة. رأيت كل أشكال الرعب في عينيها رغم أنها حافظت على هدوئها وتماسكها، صوت متهدج يحكي خوفا وخذلانا كبيرين لا قرار لهما.
رأيت تقارير تبث صور رجال يحملون فرش طلاء أسود ينتقلون بين المحلات، كلما رأوا صورة امرأة دفنوها تحت الطلاء بجد وعزم. يصبغون الواجهات التي طبعت عليها ملامح النساء، أو أجسادهن، أو أعينهن. تصرفات غريبة تجعلك في حيرة من أمرك، ما المرعب في صورة امرأة تبتسم لتكون أول الانجازات هي إخفاء ملامحها!؟ شعور بالعجز ينفذ لروحي كلما تابعت شيئا من أخبار بلد تتقهقر سنوات للوراء، رغم الوعود المكررة بمستقبل زاهر يحترم النساء ويمنحن حقوقهن. شيء بداخلي يرفض التصديق.
تماما كوعود الحفاظ على الآثار قبل عقدين من الزمن. في سنة 2001 كنت أبلغ من العمر 11 سنة، أجلس أمام تلفاز يشبه صندوقا أثريا يبث تقريرا إخباريا نتابعه بانبهار شديد، كان التقرير عن إقدام حركة طالبان بعد وصولها للحكم سنة 1992على هدم تمثالي بوذا بمدينة باميان. تمثالان شاهدان على البشرية منذ خمسة عشر قرن، نحثا داخل جبل ضخم بالقرب من واد كان يعتبر ممرا أساسيا لقوافل الحرير في أزمنة غابرة. طالبان وعدت قبل أن تقدم على فعلتها هذه سكان باميان أنها لن تمس التماثيل بسوء. لكنهم وبمجرد ما استحكمت قبضتهم حتى حملوا متفجراتهم وديناميتهم وتوجهوا إلى المدينة يعلنون الخراب. سقطت التماثيل تحت صيحات المجاهدين وهم يهتفون باسم الله، يهللون ويكبرون وكاميرات الجزيرة تبث للعالم هذه المأساة البشرية. ثم ذبحوا بعدها مئة بقرة تكفيرا عن تأخرهم في هدم الأصنام. أصنام كانت وجهة سياحية لكل سكان الأرض. يومها سألتُ أسئلة عديدة لا يمكن إلا أن يسألها طفل يرى كل هذا الخراب باسم الله. هل هذه التماثيل تستحق كل هذا الدمار؟ وما المزعج في وجودها وماهي إلا تراث بشري كغيره مما يوجد في كل الدول؟ أو ليست المآثر هي كنز الدول وتاريخها الذي يجب الاعتناء به؟
انتهى بوذا أفغانستان، وانتهت بعده بقليل فترة من الظلام القاحل الذي صاحب مجيء أعداء التاريخ والتراث. فقامت الحرب وتوالت بعدها سنوات قحط وجوع وإجلاء وقتل وإخفاء قسري لشعب بأكمله. حرمت خلال عهد طالبان النساء من الدراسة والعمل والخروج وألزمن بتغطية وجوههن وأجسامهن، طبقت الحدود وقطعت الأيادي وقتل المثليون ورجم الزناة. طبقوا شريعة جاؤوا بها ودرسوها في كهوف باكستان واعتقدوا بيقين كبير أنهم ينصرون الله. فقتلوا باسمه ورجموا باسمه وخربوا باسمه وباعوا الأفيون باسمه. قدرت مداخيل طالبان من تجارة الأفيون والهيروين بين سنتي 2019 و 2018 بحسب تقرير الأمم المتحدة بأربعمئة مليون دولار، رقم يقارب ستين في المئة من مجموع مواردها.
ارتبطنا بهذا البلد منذ سنوات بعيدة كنت فيها طفلة تتابع مع الكبار شرائط القتال، وتبكي عندما تسمع كل تلك الأهوال. فخلال حرب المجاهدين للدب الروسي الشيوعي، وهم يحملون سلاح أمريكا ويهتفون باسم الله انتشرت مظاهر التدين الأفغاني بيننا، فصار الشباب الحالم بالجهاد يرتدي لباس البشتون وينتقل به بين القريعة ودرب مينة بالبيضاء. وانتشرت أناشيد الجهاد فدخلت بيوتنا وحفظناها رغم لغتها الغريبة ورددناها كما نردد افتحي يا وردة اغلقي يا وردة.
ما يحصل اليوم في تلك البقعة من العالم، البعيدة عنا والتي نختلف عن أهلها في اللغة واللباس والثقافة والتاريخ، يصيبنا بالعجز والخذلان.
والخذلان هو نفسه الذي تابعنا به مدن الشام والعراق وليبيا واليمن تدك، وهو المتجدد دائما داخل قلوب أجيالنا التي لا تفتئ تحلم بالحرية والديموقراطية حتى يتنكر لها المجتمع الدولي وأممه المتحدة وقوانينه العالمية، وترفع منظمات حقوق الإنسان أيديها البيضاء عنها وتتركها كبشا يحمل سكينه وينتظر ذباحه، مرة على شكل أنظمة وحكام باسم القومية ومرة على هيئة حركات متطرفة باسم الله ومرة على هيئة تحرير باسم الحرب على الإرهاب. يحاربون وينهبون ويقتلون ويعذبون ثم يرحلون، ويبقى الشعب وحيدا وسط جثثه ودمائه وأنقاضه ينتظر باسم ماذا سيعدم مجددا.