بـ”الصحة” البرطمة
بينما ينشغل الرأي العام بأخبار “الاحتباس الحكومي”، يسابق وزير الصحة الحسين الوردي الزمن قبل تشكيل الحكومة الجديدة لتفويت صفقات بالملايير بطرق عجيبة وغريبة، فبعد تفويت صفقة اقتناء آلات لمعالجة النفايات الطبية داخل المراكز الاستشفائية الجامعية، وتحويل هذه المراكز إلى مصانع لمعالجة هذه النفايات عوض معالجة المرضى، قام مؤخرا بتفويت صفقة قيمتها 5 ملايير إلى شركة رأسمالها مليوني سنتيم، مع ظهور اسم مسؤول بارز بوزارة الصحة من بين المستفيدين، وتسجيل فرق خيالي بين ثمن السوق والأثمنة المرجعية، والمصيبة أن بعض الشركات الفائزة بالكعكة لا علاقة لها بالقطاع الصحي، فضلا عن أن المعدات لا تتناسب وشروط دفتر التحملات.
ومثلما ختمت وزيرة الصحة السابقة، ياسمينة بادو، ولايتها الحكومية بفضيحة صفقة اللقاحات الفاسدة، والتي خَصَّصَ لها قضاة المجلس الأعلى للحسابات حيزا مهما ضمن تقريرهم السنوي الذي رصد جملة الاختلالات التي شابت الصفقة برمتها، فإن وزير الصحة الحالي لم يخرج عن قاعدة “الله ينعل اللي يخلي بلاصتو نقية”، وهكذا تفجرت في اللحظات الأخيرة من عمر ولاية حكومة بنكيران، فضيحة أخرى من العيار الثقيل تهم “أضخم” صفقة في تاريخ وزارة الصحة خُصِّصَت لشراء واقتناء معدات وآليات بيـو- طبية بقيمة قاربت 50 مليار سنتيم، وهي الصفقة التي حملت رقم: 12/2016/2 وتم فتح أظرفة طلبات العروض الخاصة بها بمكتب خلية التنسيق والصفقات بتاريخ 11/10/2016 على الساعة العاشرة صباحا، من أجل توريد أجهزة الفحص بالرنين المغناطيسي والراديو والسكانير.
وخلال هذا اليوم كان الوزير الحسين الوردي، الذي وصفه بنكيران بأنه أحسن وزير صحة عرفه المغرب، في وضعية تصريف الأعمال بعد إجراء الانتخابات التشريعية ليوم 7 أكتوبر وتعيين بنكيران رئيسا للحكومة لولاية ثانية، والخطير في الأمر أن الوزارة قامت بمحو آثار هذه الفضيحة، بحذف محضر نتائج فتح الأظرفة من بوابة الصفقات العمومية، وكذلك محو دفتر التحملات والإعلان عن الصفقة.
المعطيات بخصوص الشركات التي فازت بالصفقة في حصصها الثلاثة عشر مثيرة بالفعل، فقد اتضح أن عملية تمرير تلك الصفقة تمت بطريقة “محبوكة” بقدر كبير من الدهاء من قبل مهندسي تلك “الفضيحة”، بحيث توجد شركة من بين هاته الشركات، رأسمالها لا يتجاوز مليوني سنتيم، وسمح لها بالفوز بحصة خيالية تتعلق بالوحدة رقم 13 من الصفقة المذكورة، والتي بلغت قيمتها 47988000.00 درهم والتي همت توريدRADIO MOBILE+AMPLI ، وهو الثمن الذي يتجاوز بكثير الثمن التقديري للإدارة، وهي الشركة التي يبلغ رقم المعاملات السنوي الخاص بها “مليون درهم” لا غير، رغم أن الشركة أحدثت قبل سنوات قليلة، في حين أن قانون الصفقات العمومية الصادر في 20 مارس 2013 بموجب المرسوم رقم 2.13.656 في المادة 18، يقضي بأن مقاييس قبول المتنافسين تأخذ بعين الاعتبار على وجه الخصوص الضمانات والمؤهلات القانونية والتقنية والمالية والمراجع المهنية للمتنافسين، وهو ما لا ينطبق على الشركة التي فازت بالحصة 13 من الصفقة، كما أن عدد العاملين بهاته الشركة أقل من عشرة أفراد في غياب أية خبرة أو مؤهلات كفيلة بتكوين الأطر الطبية التي ستشرف على استعمال هاته المعدات والتي خصصت لها الصفقة برنامجا تكوينيا يدخل في قيمة الصفقة، حسب ما تضمنه دفتر الشروط الخاصة .
وليس هذا فقط، فقد شاب أيضا خرق سافر الحصة 12 من الصفقة المعنية والتي خصصت لتوريد الوزارة لأجهزة الراديو المتعلقة بمرض السل، (8 وحدات)، حيث إن الشركة نالت الحصة بقيمة 13593600.00 درهم، والذي يفوق بكثير الثمن المرجعي للإدارة، إذ إن القيمة الحقيقية لا تتجاوز 4000000.00 درهم، بمعنى أن الشركة فازت بزيادة في الربح تجاوزت المليار سنتيم، لكن الغريب أن مجال اختصاص الشركة النائلة للحصة هو الاتصالات وإحداث الشبكات (Telecommunication et Reseau) في الوقت الذي ينص قانون الصفقات العمومية على ضرورة توفر المؤهلات التقنية والمراجع المهنية .
أما بالنسبة للحصة 7 والحصة 8 من الصفقة 12/2016/2، والتي فازت بها شركة مجال اختصاصها “الأصلي” هو الاستيراد والتصدير والتمثيل التجاري، فقد شملت حصتين مجموع غلافهما المالي 78694800.00 درهم، أي قرابة ثمانية ملايير من السنتيمات من أجل توريد 70 وحدة من ( Numeriseur multi cassette+repro) و 8 وحدات Mammograghe numerique، وهاته الأثمنة تتجاوز بكثير أثمنة السوق، علما أن هاته الشركة التي لا يتعدى عدد العاملين بها 10 أشخاص ورقم معاملاتها يتراوح ما بين 10 و50 مليون درهم.
أما في ما يتعلق بالحصة 3 من الصفقة ذاتها، والتي خصصت لتوريد وزارة الصحة لخمس وحدات من جهاز (IRM Champ ouvert) بقيمة مالية بلغت 39900000.00 درهم، أي ما يقارب أربعة ملايير سنتيم، في حين أن ثمن السوق بعيد كل البعد عن الثمن الذي مررت به الصفقة مع العلم أن هذا الجهاز أصبح غير مساير للتطور الذي عرفته مثيلاته من الآلات الطبية، وهو ما يعني أن الشركة ستحصل على هذا الجهاز بثمن “بخس” من “خردة” مخازن الشركات المصنعة لهذا الجهاز لتقوم بتوريده بثمن خيالي، عكس ما ينص عليه دفتر التحملات الخاص بالصفقة 12/2016/2 والذي يشترط أن تكون المعدات والتجهيزات حديثة النوعية والطراز والجودة .
المثير في ملف الصفقة أن من بين الشركات النائلة لإحدى الحصص بالصفقة المذكورة تعود ملكيتها في الأصل إلى ابن مسؤول بارز بوزارة الصحة، سبق له أن استفاد من صفقة قدرت بالملايير وحتى لا ينكشف “أمره” عمد إلى تغيير “القانون الأساسي” للشركة وتفويت حصصه قبل الدخول في هاته الصفقة التي جنى من خلالها الملايير في رمشة عين من أجل تزويد مستشفيات المملكة بمعدات وآليات “مشكوك” في توافقها مع المعايير التي اشترطها دفتر التحملات الخاص بالصفقة، بالإضافة إلى التلاعبات “الواضحة” التي همت القيمة التقديرية، الأثمنة المرجعية، للمعدات البيو- طبية، والثمن الذي مررت به بالمقارنة مع الثمن الحقيقي المتداول في السوق، وهو الفرق الذي بلغ أحيانا عشرات أضعاف الثمن الحقيقي، ناهيك عن “الخطة” الواضحة التي نهجتها خمس شركات مجتمعة في التباري على صفقات بعينها، بعدما كانت هذه الشركات تقوم بعملية تنسيق مسبقة بينها، وما يؤكد هذه الفرضية، كون الحصص التي تتنافس عليها الشركات المعنية بالخطة تتجاوز دائما الثمن التقديري للإدارة، وغالبا ما تكون الشركة الفائزة بالصفقة لا علاقة لها بالقطاع الصحي وفي الحالات التي تشارك شركات منافسة أخرى في حصص معينة يتم دائما تقديم عروض أثمان موضوعية تقل بكثير عن الثمن المرجعي الذي تقدمه الإدارة، وذلك بتواطؤ مع مهندسي “الصفقة برمتها”.
إن ما يحدث في قطاع الصحة العمومية من فضائح منذ خمس سنوات وإلى اليوم منذ تولي الحسين الوردي لمسؤولية وزارة الصحة، والذي لم يكشف تقرير المجلس الأعلى للحسابات سوى عن جزء يسير منه، يتطلب وقفة قانونية حازمة وصارمة لوقف نزيف المال العام واسترجاع ما تم نهبه.
وإذا كانت ياسمينة بادو قد ختمت ولايتها باقتناء شقتين في أرقى حي بباريس، فإن الحسين الوردي أنهى ولايته باقتناء عائلته لشقة فارهة في دار بوعزة بالدار البيضاء بسعر وصل إلى 4.100.000 درهم، أي 400 مليون وعشرة ملايين سنتيم، تم تسجيلها باسم زوجته وابنته.
وقد يقول قائل “شنو هيا 400 مليون عند وزير”، فالوزير يتقاضى سبعة ملايين في الشهر ولو جمعنا هذا الراتب طوال خمس سنوات فسيعطينا 400 وعشرين مليون سنتيم، مما يعني أن الوزير “ما كلا ما شرب من المانضة ديالو” ووفر راتبه كاملا طوال خمس سنوات لدفع ثمن هذه الشقة.
المشكل ليس هنا، بل في عقد الموثق الذي أشار إلى أن ثمن الشقة لم يسلم أمامه ولذلك لم يضمنه عقد البيع بين المشتري، زوجة وابنة الوزير وبين الشركة العقارية.
ليس خافيا على أحد أن المعاملات المالية لعائلات الوزراء يجب أن تكون شفافة وواضحة ومنصوصا عليها في الوثائق، دفعا لشبهة الفساد واستغلال النفوذ.
وفي حالة وزير الصحة وزوجته وابنته فقد كان من الأنسب، ودفعا للشبهات، دفع سعر الشقة أمام الموثق لكي يضمنها عقد البيع، لأنهم باختيارهم عدم القيام بذلك يتركون باب الشبهات والتأويلات مفتوحا.
وهو الباب الذي يجب أن يطرقه القضاء ومؤسسات الرقابة على المال العام، خصوصا مع كل هذه الفضائح التي تزكم روائحها أنوف العاملين في قطاع الصحة العمومية، فربما يعثرون على مصدر الرائحة.