برشيد.. قصة أقدم مستشفى للطب النفسي
مرضى وأطباء وممرضون وعابرون تركوا بصماتهم في ذاكرة المدينة
يختفي مستشفى الأمراض العقلية ببرشيد من الأذهان ثم يظهر فجأة في صفحات الأخبار وعلى منصات التواصل الاجتماعي بهروب نزيل أو غياب طبيب، لكن مستشفى زمان لم يعد حاضرا إلا في ذاكرة أبناء حاضرة أولاد حريز القدامى.
لكن اسم برشيد اقترن للأسف بمستشفى لترميم اختلالات الأذهان، لقد شبت هذه الحالة في دوائر النفوس وكبرت فاستحسنها أبناء برشيد تارة وغضبوا منها تارة أخرى، تماما مثل الفرنسيين أبناء مدينة شارنتون التي تأوي أكبر مستشفى للطب العقلي بفرنسا. ومن المفارقات العجيبة أن الناس تعايشوا مع هذا التطابق بين معلمة صحية ومجال اجتماعي وأصبحنا نلاحظه بشكل ظاهر في إشارات المسافرين إلى برشيد حيث يكتفون بإشارة تؤكد أن وجهتهم هي برشيد.
لكن التردد على مستشفى للطب النفسي في المغرب يكبد صاحبه مضاعفات قد تكون من المرض بسبب كلام الناس، بعد برشيد يعد الرقم 36 رقما مخيفا في الدار البيضاء، إذ يمكن أن تسمعه في شوارعها، حين يصف أحدهم شخصا ما بـ «الأحمق» أو «المريض النفسي». والرقم 36 يشير فقط إلى إحدى أجنحة مستشفى ابن رشد والمخصص لهذه الفئة من المرضى.
في هذا الملف الأسبوعي نتوقف عند مستشفى غمر مدينة وقام بطلائها بصباغة القلق الذهني، فقط لأن المستعمر الفرنسي اختارها لتكون أرض علاج المختلين ذهنيا.
مستشفى للأمراض الذهنية يحتل نصف المدينة
بعد أن كان مستشفى «الرازي» للأمراض العقلية ببرشيد، الذي تأسس سنة 1918 سنوات بعد الاحتلال الفرنسي، «جنة خضراء» سنوات الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، وارتبط اسم مدينة برشيد بهذا المستشفى الكبير الذي كان يحتل المرتبة الأولى إفريقيا، حيث كانت طاقته الاستيعابية تتجاوز 2000 سرير، وحقق عبر سنوات إشعاعا جهويا ووطنيا وقاريا، وكانت مساحته تضم أكثر من 52 هكتارا، وكان يضم 27 جناحا، وكل جناح به ما يقارب المائة نزيل ينحدرون من جل المدن المغربية، وكان من بين النزلاء كذلك بعض العرب من الجزائر ومصر والعراق. وقد لقي هذا المستشفى شهرة وطنية ودولية، وكان يعمل به مئات الموظفين والمستخدمين وطاقم طبي جله من فرنسا.
كانت تقام به التحليلات والتشريحات. وكان مجهزا بجميع الأدوات والآليات اللازمة، أما النزلاء فكان الاعتناء بهم هو الأهم، فصيفا كانت لهم بذلة خاصة تقيهم الحر وشتاء لهم بذلة تجلب لهم الدفء. وكان بالمستشفى الماء الساخن من أجل الاستحمام، وفرن لطهو الخبز من أكبر الأفران بالمدينة، أما المطبخ فمساحته كانت شاسعة وبه أحسن المأكولات، كما كان يوجد بالمستشفى ثلاثة أقفاص كبيرة لتربية مختلف الطيور. وكانت توجد كذلك سينما يلجها النزلاء المرضى من أجل الترفيه عن النفس، ومقصف خاص بالنزيلات وحجرة للخياطة والحياكة. كما كان يوجد داخل المستشفى مسبحا ووادا اصطناعيا به العديد من الأسماك الملونة، التي جلبها الدكتور المصري سعد راغب الإسكندري من ألمانيا.
كان المستشفى معلمة حقيقية بالمدينة وقد كان يشتغل به ما يناهز 500 موظف وموظفة وكان يشكل سابقة في اشتغال المرأة المغربية آنذاك في قطاع مثل قطاع الطب النفسي كما كان يتواجد به على الأقل خمسة أطباء نفسانيين والذين تنوعت جنسياتهم مثل الدكاترة الفرنسيين بواترو وامالام وبيرتي وكليما والطبيب الإسباني الدكتور إربانو والألماني ديرمان، فضلا عن طبيب يهودي يدعى سلطان وآخرين.
برشيد.. مدينة ارتبطت تاريخيا بقائد ومستشفى
يقول الجيلالي طهير الباحث في تاريخ أولاد احريز، إن حاضرة المذاكرة وأولاد احريز برشيد، ظهرت انطلاقا من القصبة التي اتخذها قواد أولاد احريز من أسرة برشيد مقرا لسكناهم، ومنها كانوا يحكمون ثلاث قبائل هي قبيلة أولاد احريز، حيث توجد المدينة، وقبيلة المذاكرة، وقبيلة أولاد علي.
«قصبة برشيد، التي لاتزال قائمة، خلفت قصبة أخرى شهيرة بأولاد احريز، هي قصبة مرجانة التي بناها القائد كريران الحريزي، الذي كان يحكم كل بلاد تامسنا في عهد مولاي سليمان»، وكما ذكر الناصري في «الاستقصا»، فإن محمد بن الطيب العلوي الذي ولاه السلطان مولاي عبد الرحمن على تامسنا ودكالة حوالي سنة 1240هـ هو الذي هدم قصبة مرجانة، وهو الذي ولى أحد أجداد أسرة آل برشيد قائدا على إخوانه كما جاء في كتابه: «مدن وقبائل المغرب: الدار البيضاء والشاوية».
كانت قصبة برشيد في الأصل عبارة عن حصن، يحيط به سور مرتفع مستطيل الشكل، مبني بالتراب، يوجد بداخل السور سكن للقائد، وتعتبر قصبة برشيد واسعة بالمقارنة مع القصبات الأخرى بحيث تحتوي على مسجد بداخلها.
وقد عرفت مدينة برشيد نموا واضحا في أواخر القرن التاسع عشر، حيث وصل عدد سكانها قبيل الاحتلال الفرنسي إلى حوالي 2000 نسمة، وشكلت بهذا العدد مع قصبة سطات وقصبة بن احمد أهم المراكز الحضرية بالشاوية بعد مدينة الدار البيضاء.
تأثرت مدينة برشيد بأحداث وتقلبات عديدة، ففي سنة 1905 تمكن ثوار الشاوية من اقتحامها وتخريب أجزائها، وفي صيف 1907 رابطت بها محلات المجاهدين المحاصرة للفرنسيين بالدار البيضاء، «وبعد قتال دام حوالي خمسة أشهر تمكن جيش الاحتلال الفرنسي من دخول مدينة برشيد واحتلالها بدون قتال صباح 13 يناير 1908، إذ كان سكان القصبة والمجاهدون قد انسحبوا منها قبل وصول جيش الاحتلال»، كما جاء في نفس المصدر السابق.
لقد تحولت هذه المدينة في مرحلة التأسيس باحتضانها لأكبر مستشفى للأمراض العقلية على المستويين الوطني والقاري إلى مدينة غير عادية، حتى أصبحت دلالتها الإسمية تحمل في مضمونها شيئا من الجنون. حيث ارتبطت في تطورها الاقتصادي والاجتماعي بمستشفى الأمراض النفسية والعصبية جعل الكثيرين يعتقدون أن «برشيد» اسم مستشفى وليس اسم مدينة.
من ثكنة لتأديب الجنود المتمردين إلى مستشفى
خلال تواجد القوات العسكرية الفرنسية في برشيد طرحت إشكالية التطبيب، فتم إحداث مستشفى قروي متنقل بعين المكان، لمعالجة المصابين والمرضى من الجنود والضباط، في انتظار نقلهم للعلاج بمستشفيات فرنسا.
وبعد مرور سنتين، أي خلال سنة 1910، كلفت الحكومة الفرنسية طبيبين مختصين في الطب العقلي، وهما لوروف وسيرو، بزيارة ميدانية لأهم المدن المغربية وسجونها لإعداد تقرير عن المجانين بالمغرب، فتأكد لهما بأن خدمة المرضى وعلاجهم بالمعنى الطبي منعدمان تماما بالمغرب. وقد عاين الطبيبان خلال البحث وجود ثلاثة أنواع من المجانين، وتم تصنيفهم كالتالي: الحمقى المهادنون الذين يعيشون على التسول في الهواء الطلق، ويعتبرهم العامة أولياء صالحين، الحمقى المزعجون المحروسون في المنازل والمهددون عادة بالاغتيال من طرف محيطهم، ثم الحمقى الخطيرون المحتجزون في المارستانات والسجون.
يتحدث الباحث طهير عن البدايات الأولى للمستشفى فيقول في سنة 1926، أصبحت برشيد بسكانها البالغ عددهم 718 نسمة، منهم 343 أوروبيا، 171 يهوديا و98 مسلما، تضم أول بناية عصرية لإيواء المستشفى الوحيد من نوعه المتخصص في علاج الأمراض النفسية والعصبية بالقارة الإفريقية، يغطي حوالي 43 هكتارا بينما المدار الحضري للمدينة لا يتجاوز في مجموعه 48 هكتارا تقريبا. «منذ البداية، عهد بإدارة المستشفى لرائد الطب العقلي بالمغرب الدكتور دي مازل، واقتصرت الخدمات الاستشفائية على مداواة المرضى الأوروبيين دون سواهم. كانت النواة الأولى للمستشفى تتكون من خمسة عنابر وغرفة عمليات قبل إحداث جناح خاص بالنساء الأوروبيات، ثم شيدت دور سكنية لفائدة الطبيب رئيس المستشفى، والمدير المقتصد، والممرضين والممرضات الأوروبيات. وفي سنة 1931، أصبح المستشفى يتمتع بصفة المؤسسة العمومية ذات الشخصية المعنوية والاستقلال المالي، ويتوفر على ميزانية ملحقة بلغت مداخيلها سنة 1952 حوالي 130 مليون فرنك فرنسي».
في تلك الفترة، شيدت عنابر جديدة مكنت من رفع القدرة الاستيعابية للمستشفى إلى 1000 سرير، قبل أن تصبح 2000 سرير، الشيء الذي مكن من توفير الخدمات الاستشفائية للمرضى الأوروبيين والمغاربة دون تمييز، فأصبح المستشفى يستقطب المرضى الذهنيين من كل ربوع المملكة.
كانت أغلب الحالات المرضية المعالجة في المستشفى تتعلق بالإدمان على المخدرات، حيث بلغت 7323 حالة مسجلة خلال الفترة الممتدة من 1936 إلى 1956. تم التصدي لها بواسطة طاقم طبي على مستوى عال من الكفاءة والخبرة، مكن المستشفى من نيل شهرة عالمية وجعل منه فضاء حقيقيا للراحة والاستجمام والتداوي. على رأس هؤلاء الأطباء المختصين دوناديو أندري، بيرسون أنتوان، روبير بواترو، لاندري روني، برناردي جاكلين، اسكندر سعد راغب، سلطان آلان، مولان جون بول، راينو ادموند، إلخ. وفي هذا الصدد يقول الأديب المغربي أحمد المديني: «حين ألتقي مع أصدقاء عرب، أفاخر بأن برشيد في فترة من الفترات كانت تضم أهم مستشفى للأمراض العقلية بالقارة الإفريقية، مما يعني أننا نتوفر على عبقرية من نوع خاص».
فانون.. طبيب نفساني مات في كمين ضواحي وجدة
ولد فرانز فانون في يوليوز سنة 1925، بمدينة فور دو فرانس بجزر المارتينيك، وهي مستعمرة فرنسية، عرف بنضاله من أجل الحرية وضد التمييز والعنصرية منذ أن كان طالبا، وحين تخرج من الكلية وهو يحمل صفة طبيب نفساني، التحق بالجيش الفرنسي وحارب ضد النازيين. ثم عمل طبيبا عسكريا في الجزائر في فترة الاستعمار الفرنسي، حيث عين رئيسا لقسم الطب النفسي بمستشفى البليدة في الجزائر، إذ انخرط مذ ذاك الحين في صفوف جبهة التحرير الوطني الجزائرية، وعالج ضحايا طرفي الصراع، من جزائريين وفرنسيين.
لم تقتصر زيارات هذا المفكر المارتينكي المناهض للاستعمار على مدينة وجدة وبركان وما جاورهما، بل زار مدينة تطوان والتقى مفكريها، وكشف عن فحوى وجوده في المغرب في عدد من كتاباته.
شعر الفرنسيون بتعاطف فرانز مع الجزائريين، فقرر الفرار إلى تونس، ثم عاد إلى الجزائر مختفيا، ومنها دخل المغرب واستقر بمدينة وجدة، حيث التقى بقيادات مغربية وجزائرية، بل إنه كان معجبا بالفكر الثوري لزعيم الريف عبد الكريم الخطابي، وبمفكري مدينة تطوان التي زارها في الفترة نفسها وقضى فيها أسبوعا كاملا.
خلال وجوده في المغرب، ألح على زيارة مستشفى الأمراض العقلية في برشيد، بحكم اختصاصه كطبيب نفساني، وفيه توقف عند الطرق المتبعة للحد من الانفلات الذهني لدى المرضى، وأعجب بالأجنحة التي كانت موزعة حسب الديانات، جناح للمسلمين وآخر لليهود وثالث للمسيحيين، كما وقف طويلا عند القفص الضخم في مدخل المستشفى وحوله إلى موضوع لكتاباته.
في سنة 1961 وبينما كان فرانز فانون خارجا من ثكنة في جبهة القتال الغربية قريبا من مدينة وجدة، حيث يقوم بحصص علاج ذهني، انفجرت قنبلة تحت سيارة «جيب» كان يركبها، فأصيب بجروح بالغة في ظهره، تبين أن الفرنسيين قد زرعوا في طريق الثكنة ألغاما أصاب أحدها سيارة الطبيب.
ونظرا لعدم توفر العلاج المناسب في وجدة، تم نقله إلى الولايات المتحدة الأمريكية، لكن الأطباء الأمريكيين اكتشفوا فجأة إصابته بمرض سرطان الدم «اللوكيميا»، فلم يكن بإمكانهم فعل الكثير، وبقي فانون يعاني في المستشفى إلى أن توفي في دجنبر 1961 بواشنطن، وعمره لم يتجاوز 36 عاما.
الممرضة اليهودية والمختل العقلي في برشيد
كان يتردد على المستشفى مرضى من كل الديانات وكان الدكتور اليهودي ألان سلطان واحدا من أشهر أطباء هذا الفضاء الصحي. يقول صالح الإدريسي «ماجور» متقاعد قضى أزيد من 42 سنة في خدمة نزلاء مستشفى الأمراض العقلية لبرشيد، إن المستشفى كان الأكبر والوحيد على مستوى تراب المملكة، مضيفا أن أسباب النزول ترجع لوجود أفراد من الجيش الفرنسي تم تجنيدهم من جنسيات مختلفة، عانوا من القهر النفسي ولم يتمكنوا من التأقلم مع الوضع الجديد فانتابتهم الرغبة في التمرد على الوضع. يقول الإدريسي وهو يعيد شريط الذكريات إلى الوراء: «أصل التأسيس عسكري قبل أن يتحول إلى فضاء يشمل جميع المواطنين بخدماته».
وعلى صعيد آخر، «نالت بعض العائلات شهرة خاصة بفضل المجانين الذين كانوا يؤدون لها خدمات منزلية، مثل عنتر بالنسبة لعائلة الريحاني، إدريس البركادي وعلي الجيكي عند الإخوة بوكريزية، مولاي إدريس عند الحطاب ولد السطاتية، خدوج عند إدريس زهير، بزيز الوجدي عند الجيلالي العثماني، لوبيز عند حميدو لمطاعي، عبد الرحمان عند المصطفى الزوراري، إلخ. ناهيك عن المجانين المتجولين صباح مساء بفضاء القيسارية، والدين كانوا أصدقاء الجميع، مثل قونوفو، البهجة، حميدة حلال العقادي، رحال، حسن الكمانجة، الرحيميني، مكتوب، المعيطيطي، علي الشيكي، بنداود وهو رجل مثقف كان من رواد مقهى بلفقيه» يقول الباحث الجيلالي طهير.
ولا يخلو السجل التاريخي لمجانيين برشيد من الخطورة وأحيانا من الطرافة التي تشبه النبوءة. ففي مطلع الستينات قام مجنون طليق بطعن الجزار عبد السلام بن صالح الحبشي، بداخل متجره بالقيسارية وأصابه بجروح خطيرة. وفي منتصف الستينات، أعطت ممرضة يهودية، كانت زوجة طبيب يهودي يدعى إيدوار ساسان، تملك سيارة صغيرة نوع «دوفين»، عبد الرحمان صاحب المصطفى الزوراري علبة سجائر أمريكية، وهو الذي اعتاد على تدخين أعقاب السجائر المرمية في الشوارع، فرفع يديه إلى السماء وقال لها شاكرا: «سيري يامدام الله يجعل راية اليهود فوق من راية المسلمين». بعد أيام حل شهر يونيو 1967، وحصلت النكسة العربية.
الفن التشكيلي في خدمة نزلاء مستشفى برشيد
في أوائل الثمانينات من القرن الماضي، شهد المستشفى مبادرة اعتبرت سابقة فنية رائدة، من مفكرة الدكتور عبد الله زيوزيو، طبيب الأمراض النفسية والعقلية. فقد فتح المستشفى أبوابه، لمدة أسبوع تقريبا، لاستقبال أشهر الرسامين المغاربة لرسم جداريات تمنح البهجة والبهاء لممرات المستشفى، وسمح لبعض النزلاء من المجانين بالتعبير عن ذواتهم بالريشة والألوان إلى جانب الفنانين، وكانت المفاجأة مثيرة للدهشة، فقد أبان بعض المرضى عن مواهب فنية دفينة.
ومما أعطى لهذه الخطوة غير المسبوقة نكهتها، أن رسامين أمثال محمد المليحي، ومحمد شبعة، وعبد الكريم الغطاس، وعبد الله الحريري، ومثقفين وفنانين أمثال الكاتب إدريس الخوري، والمخرج السينمائي عبد القادر لقطع وثريا جبران، وعبد الكريم الغطاس، إضافة إلى وجوه عربية مثل المناضلة الفلسطينية ليلى شهيد والكاتبة هاديا سعيد، كلهم نزلوا ضيوفا في أجنحة خاصة، لمدة أسبوع تقريبا، بنفس المستشفى، فأبرموا علاقات صداقة مع بعض النزلاء، حيث كانوا يأكلون ويشربون معهم في جو من الحميمية والتلقائية.
دعم هذه المبادرة التي كانت رائدة عبد الله القادري الرئيس السابق لبلدية برشيد، وكانت تهدف لربط التواصل الفني والإنساني بين الفنان والنزيل، باعتبار كل واحد منهما يملك قدرا من جنون الإبداع.
كان الهدف هو استضافة المستشفى للمبدعين والفنانين لتكسير رتابته وكآبته، والانفتاح على محيطه، وإخراج بعض نزلائه من أسوار عزلتهم، وفسح المجال أمامهم للتعبير عن مكنون أنفسهم بالريشة والألوان، وبالتحديد أولئك الذين شرعوا في التجاوب مع العلاج واستعادة وعيهم وتوازنهم النفسي.
يقول الكاتب الصحفي بوشعيب الضبار: «كان النهار مخصصا للرسم والتواصل مع النزلاء وسكان المدينة الذين فتحت أمامهم الأبواب للدخول إلى المستشفى، قصد اكتشافه، وحضور بعض الأنشطة والأوراش الفنية، ورؤية الجداريات التشكيلية وهي تكتسح الجدران لتبعث فيها إشراق الألوان وبهجتها. وعلى مدى أسبوع كامل، كان النقاش في الأمسيات يشتد بين مختلف المثقفين والفنانين حول التشكيل وشؤونه، في علاقته مع المجتمع وتفاعله مع ظواهره، وهي حلقات كان ينشطها في الغالب الدكتور عبد الله زيوزيو، أو شبعة، أو المليحي، قبل أن تنتهي على وقع الموسيقى والغناء بشكل عفوي وتلقائي».
ومن أجمل لحظات هذه التظاهرة هي تلك الجلسات التي يلتئم فيها الفنانون والنزلاء، جنبا إلى جنب، حول مائدة الطعام، يقتسمون نفس الأكل والشرب في جو لا يخلو من الدعابة.
ومن جهته، كتب إدريس الخوري، تحت عنوان «برشيد، الذاكرة المنسية»، مقالة بجريدة «المحرر» جاء فيها: «علم النفس له لغته وتحاليله، وللفنان تصوره الخاص للعملية الإبداعية وفهمه لإشكالية التعبير. ما رأيته في برشيد كاف لأن يصاب المرء بالصدمة والرجة. فهؤلاء المرضى- المنسيون والمهمشون، البعيدون عن رؤية العالم الخارجي، القابعون في أجنحتهم وفضائهم المطلق، حيث يسيطر الهذيان والنسيان، يشبهوننا جميعا إلا من حيث تنعدم الذاكرة ويغيب العقل. فهل يجب نسيانهم؟ لا يتعلق الأمر هنا بالحمق البسيط والمركب، بل يتعلق بوضعية إنسانية مهملة متروكة لزمنها الخاص وحالتها الغريبة. ذلك أن تجربة المرضى، في التعبير الكتابي والتعبير الجسدي (رقص ورسم) تكشف، فعلا، عن الذاكرة الشعبية المنسية التي آن الأوان لفهمها: أناس فعلا مرضى يبتسمون ويضحكون، يلتقون ويفترقون، يحيون الزوار ويطلبون السجائر بإلحاح، يجلسون إلينا ويتحدثون عن همومهم بلغة سريالية، فأين نضع إبداعاتهم؟ ما رأيته في برشيد يؤلم جدا: مرضى هائمون على وجوههم مثل بطل بازوليني في شريط «تيوربما» حيث يتعرى ذلك البرجوازي الإيطالي في الساحة ويهيم على وجهه. هل رأيتم «طائرا فوق عش الكوكو»؟ إنه في برشيد. لكن ضمن شروط اجتماعية أسوأ».
قصة طبيبة رومانية وأقدم نزيل أجنبي بالمستشفى
منذ سنة 1973 فقد المستشفى استقلاله المالي والمعنوي، بتزامن مع «سياسة المغربة»، ونهاية التعاون الفرنسي- المغربي في الميدان الصحي. وقتها، استورد المغرب أطباء من رومانيا، فالتحقت طبيبة رومانية للعمل، مع زوجها، بمستشفى الأمراض العقلية ببرشيد، وألفت كتابا تسرد فيه ذكرياتها، نقدم لكم بعضا من فقراته:
تقول الطبيبة مرينا أيلينا بيرت هاتو، إن مستشفى برشيد للأمراض العقلية كان يتوفر على 2000 سرير، ويشغل 400 موظف. وكان يتميز بالتنظيم المحكم، على الطريقة الأوروبية، بفضل الأطباء الفرنسيين، والطبيب المصري إسكندر الذي أعطى الكثير للمستشفى. كان المستشفى يتوفر على صيدلية، ومكتبة، وقاعة لعرض الأفلام السينمائية. «كان يسمح للنزلاء المسالمين بمشاهدة الأفلام التي يتولى عرضها المصور الخاص بالمستشفى، ومن مهام هذا الأخير أيضا إنجاز الصور الفتوغرافية التي تلصق بالملفات الطبية للمرضى».
خلال إقامتها ببرشيد، استقرت الطبيبة الرومانية بإحدى الفيلات المتوفرة بالمستشفى، وكان يسكنها من قبل طبيب فرنسي لمدة عشرين سنة. قبضت تسبيقا ماليا من سفارة بلادها قدره 50 ألف فرنك فرنسي. وفي اليوم الموالي، جاءت الشعيبية خادمة رب البيت السابق، ووضعت نفسها رهن الإشارة وطلبت 50 ألف فرنك فقط. أصيبت الطبيبة بالذهول، وأجفلت غير مصدقة، لأنها لم تكن تفرق بين الفرنك الفرنسي والفرنك المغربي.
«كان آخر نزيل أجنبي بالمستشفى، فرنسي الجنسية، يسمى لويز. «رجل ثقة، فريد من نوعه ولا يمكن تعويضه»، تقول صاحبة الكتاب. كان يشتغل ميكانيكي سيارات قبل دخوله المستشفى، ولما جاءت عائلته لترحيله إلى فرنسا، رفض السفر معها، وفضل البقاء في المستشفى. كان لويس يعتني بالحديقة، ويحرس الفيلا. وأثناء الليل، كان يسرح في آفاق بعيدة، ويتكلم مع القطط والكلاب، زاعما بأن قطه الأحمر له علاقة مع البيت الأبيض الأمريكي. كان لويس يربي 20 دجاجة، سقطت منها 14 دجاجة فريسة الناهبين، فأخذ فأسا وحطم شجرة التين، وهو يقول بأن اللصوص يسكنون جذور الشجرة.
لما توفي لويس سنة 1977، وعمره 74 سنة، كانت كنيسة برشيد مغلقة، فبقيت جثته محفوظة في مستودع الأموات إلى أن سمح قس كنيسة مدينة الدار البيضاء بدفنها بالمقبرة الأوروبية ببرشيد.
إلى ذلك، قال الباحث طهير في روايته عن هذه الطبيبة إن إدارة المستشفى وزعت 12 بندقية على الأطر الأجنبية بالمستشفى من أجل حماية ممتلكاتهم، ولم تطلب منهم في مقابل ذلك غير التوقيع على مطبوع خاص بتسلم السلاح.
المستشفى في الخيايطة.. الولي الصالح لعلاج المريض الصالح
لا يخلو السجل الذهبي لمستشفى الأمراض العصبية ببرشيد من غيوم شوشت عليه في مرحلة التأسيس، والسلطات الفرنسية وقتها منشغلة بالتوسع الاستعماري وحرب الريف. ففي سنة 1925 كتبت جريدة «لومانيتي» الفرنسية بأن «المستشفى الشهير لبرشيد لا يزال يثير ردود الأفعال. المرضى لم يستبدلوا ملابسهم منذ شهر ونصف، وآخرون لم تغير لهم شراشف الأسرة منذ شهرين ونصف، في الوقت الذي يمنح فيه الطبيب رئيس المستشفى أولوياته لخدمة الزبناء من المدنيين، بحثا عن الربح المادي». وبدورها طلبت جريدة «لتريبين دي صولدا إيدي ماران» من الجنرال ليوطي وضع حد للحالة المتدنية التي يعيشها مستشفى برشيد قبل التفكير في القضاء على الثائر عبد الكريم الخطابي، وكتبت في هذا الخصوص: «لا يمكن مقارنة الخدمات الصحية بالمغرب بمثيلاتها بفرنسا. الممرض الميجور أندري فيولون يهتم أكثر بمطعمه الخاص على حساب المرضى، ومهام التمريض متروكة لجنديين فرنسي وسينغالي ليس لهما أية دراية بالطب».
وفي المغرب المعاصر، تعتبر سنة 1973 محطة مفصلية في تاريخ المستشفى، أفقدته امتياز المؤسسة العامة وصفة الشخصية المعنوية المستقلة. منذ تلك الحقبة وصولا إلى لحظة سقوط الجدران واغتيال العنابر بواسطة الجرافات، ظل الشعور بالقرف ينتاب أبناء برشيد الدين يحبون مدينتهم دون مقابل تجاه الحال التعس لهذا الفضاء الذي يرمز لجزء من تاريخهم. ففي سنة 1986 توفي 26 نزيلا بالمستشفى في ظرف 23 يوما بسبب البرد ونتيجة الإهمال واللامبالاة. وكانت فترات عصيبة ومرهقة بالنسبة للفقيه السي ميلود الأشهب رحمه الله، وهو الذي كان يتولى دفن أموات المستشفى على الطريقة الإسلامية. وأما اليوم، فلم يبق من مستشفى برشيد إلا الذكرى التي تقفز إلى مخيلة كبار السن في هذه المدينة التي تعبق بالتاريخ.
في نهاية التسعينات، طرحت قضية ترحيل المستشفى من برشيد إلى منطقة الخيايطة بساحل أولاد حريز. وقتها اقترحت السلطة الإقليمية على المجلس البلدي الاتحادي المصادقة على الترحيل، غير أن المنتخبين عبروا عن رفضهم التخلص من المستشفى الذي اعتبروه جزءا من تراث برشيد. وما هي إلا أيام قليلة حتى عادوا للاجتماع من جديد في دورة استثنائية وتراجعوا عن القرار المتخذ، بعدما تبين لهم أنهم صادقوا من قبل على تصميم التهيئة الذي يلغي وجود المستشفى من الجذور. واتضح في الأخير أن العقار المرشح لإيواء المستشفى بجماعة الخيايطة غير جاهز وخارج سلطة الإقليم.