بداية الانهيار (1/2)
في عام 1198م مات (ابن رشد) بعد أن طرده الغوغاء من مسجد قرطبة ونفاه الملك الموحدي إلى قرية الليسانة اليهودية بعمر السبعين. وبعد عشرين عاماً طحنت الدولة الموحدية بجنب مدينة (ثيوداد رويال) في الأندلس في معركة العقاب في أفظع عقاب. وبعدها تهاوت الحواضر الأندلسية كورق الخريف. بالنسيا 1236، قرطبة 1238، وأخيرا اشبيلية عام 1248م، ومع أفول عصر الموحدين دخل العالم العربي ليل التاريخ وأنتج إنسان ما بعد الحضارة كما في نفايات الطاقة بعد استهلاكها. وهكذا تفعل الحضارة بالإنسان تستهلكه مادة خام وتصنعه إنسانا متفوقا ويخرج منها متبخر الطاقة الإبداعية. يظهر بعدها على السطح إنسان يتقن التمثيل ويؤدي كل الأدوار بدءا من الصعلوك وانتهاء بالامبراطور. قد تبخر عنده المثل الأعلى. ووقع في شبكة (علاقات القوة) في مجتمع فرعوني تحول إلى (مستكبرين ومستضعفين). يعيش (كالأميبيا) على شكل كائن رخوي بدون مفاصل تحدد حركته أو عمود فقري يقيم صلبه. يحل مشاكله بمد أذرع كاذبة قابلة للتشكل على أي صورة فيمكن أن يأخذ صورة (قلم) يوقع كلمة نعم في كل انتخاب.
كما يمكن أن يكون (بوقاً) مرددا ما يطلب منه من شعارات. أو (بندقية) تقوم بحفلات الإعدام حسب الأوامر. أو (سيارة) جاهزة للقيادة لمن يحكم قبضته على مقودها ولو كان لصا يخطفها فمتى اعترضت سيارة على هوية السائق. وبتعبير مالك عن هذا الكائن الاجتماعي: (ثم يبدأ تاريخ الانحطاط بإنسان (ما بعد الموحدين) ففي عهد ابن خلدون استحالت القيروان قرية مغمورة بعد أن كانت في عهد الأغالبة قبة الملك وقمة الأبهة والعاصمة الكبرى التي يقطنها مليون من السكان، ولم يكن حظ بغداد وسمرقند خيراً من ذلك؛ لقد كانت أعراض الانهيار العام تشير إلى نقطة الانكسار في المنحنى البياني). تروي لنا السيرة والتاريخ واقعتان على التشكل الصحي للمجتمع أو الانحراف المرضي. فأما الأول فهو موقف أحد الصحابة في معركة أحد وهو يفارق الحياة قائلاً: لا عذر لكم إن خُلِص إلى رسول الله وفيكم عين تطرف. وأما الثاني فهو عقيل ابن أبي طالب يواجه مصادرة الحياة الراشدية على يد البيت الأموي: (إن صلاتي خلف علي أقوم لديني وإن معاشي مع معاوية أقوم لحياتي) فالتاريخ ينقل لنا هنا مأساة انفكاك الضمير عن الواقع. في الوقت الذي كان نموذجا يندمج فيه الضمير مع المثل الأعلى والحياة (إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين). إن حادثة السيرة تروي أقصى ما يمكن أن تفعله التربية بالإنسان، والمجتمع يمكن أن يحدد بين الصحة والمرض بموجب مؤشرين: إنتاج (النموذج الإنساني) و(الكمية الحرجة) من هذه الكتلة كما في أي تغير نوعي في أي وسط، فالقنبلة النووية لم تنفجر إلا بكتلة حرجة، كما أن تغير الماء النوعي يتم وفق الدرجة الحرجة سواء في التجمد أو التبخر، وهذا ينطبق على اندلاع الثورات في المجتمع عندنا تصل إلى الوضع الحرج بين سوء الأوضاع من جهة والوعي الجماهيري من طرف مقابل. وهناك ثلاث مستويات يمكن أن يتشكل وفقها (الإنسان الاجتماعي) ففي الأول يبرز إنسان مستلب الإرادة والثاني محرر الإرادة والثالث إيجابي الإرادة. فأما الأول فممسوخ الآدمية أقرب إلى القردة والخنازير يفعل ما يوحى إليه في مجتمع متدني الفعالية، يعبد سادته وكبراءه ويعيش حالة وثنية سياسية بأصنام وصور مشرعة.
وهو ما شبهناه بشكل القلم أو البوق أو البندقية، فلا يرد القلم ما تخطه اليد من الموافقة بنعم، أو بوق يردد رجيع الصوت بدون مناقشة، أو يقوم بالجريمة بأكبر حجم لأن الأوامر جاءت هكذا. إن إنسان ما بعد الموحدين مستعد أن يهدم الكعبة لو أمر بذلك، ولربما بكى وهو يفعلها. هذا النموذج الممسوخ يمثل الطبيعة في ظاهرة (القصور الذاتي) فالسقوط محتم لكل الأشياء باتجاه الأسفل، أما الصعود فيحتاج إلى طاقة وهنا تفعل التربية فعلها فترتفع بالإنسان باتجاه المثل الأعلى. يقول بن نبي: (وهنا لا نواجه تغيراً في النظام السياسي بل إن التغير يصيب الإنسان ذاته الذي فقد همته المحضرة فأعجزه فقدها عن التمثل والإبداع).
ويطرح عالم النفس البريطاني (هادفيلد) في كتابه (التحليل النفسي للخلق) هذا السؤال الحرج: ما هو المنبه المناسب لتنشيط الإرادة؟ ويجيب أن كل حاسة لها مثيراتها، وهكذا فالفوتونات تحرض حاسة البصر، والذبذبات الصوتية تحرض حاسة السمع، والجزيئات الكيمياوية تحرض حاسة الشم. ولكن ما يحرض الإرادة هو المثل الأعلى.
ويرى المؤرخ البريطاني (توينبي) أن الإرادة الجماعية تحرض عند بروز التحدي التاريخي في وجه جماعة اختارت العمل المشترك، وهو ما تفعله التربية بالقفز بالإرادة الإنسانية إلى فرق جديد في الطاقة فتتحرر فيؤدي الإنسان الأعمال في صورة مواطن واع مشارك مسؤول، فيفعل ما يراه صحيحاً ويمتنع عن المعصية. وهكذا يظهر إلى سطح المجتمع إنسان جديد (محرر الإرادة) ليس عصا للضرب بكل يد. أو طبل جاهز للقرع بكل الأنغام والرقصات. أو مسدس جاهز الزناد لإعدام ولو أبيه. إن القرآن قرن بين ثلاثة مظاهر للمسخ في اتجاه العبودية فذكر (القردة والخنازير وعبدة الطاغوت) ويظن البعض أن المسخ كان بيولوجياً وهو ثقافي كما نرى.
إن أول ما نزل من القرآن كان سورة العلق وهي أكدت ثلاثة معان مفصلية: الأول تأكيد الكرامة بالقراءة (اقرأ وربك الأكرم) من خلال تغيير محتوى الوعي بالمعلومة المكتوبة بالقلم (علم الإنسان ما لم يعلم). والثاني معالجة أشد مشاكل المجتمع خبثاً واستعصاءً وهو الطغيان وأنه قابلية مشكلة في جبلة كل منا إذا منح السلطة بدون ضوابط. ونحن نعرف أن سلطة قليلة تعني فسادا قليلاً وسلطة مطلقة تعني فسادا مطلقا. والثالث: وصفة بسيطة للتخلص من الطغيان وهو (عدم التعاون) ورفض الطاعة لأن الحساب في الآخرة فردي ويجب أن يفكر الإنسان باستقلال ويتصرف بإرادة وهو مسؤول عن أعماله ولو كانت مثقال ذرة من خردل. والاقتراب من الله في النهاية لا يتم بغير سجود فعلي ولا سجود إلا برفض الطاعة (كلا لا تطعه واسجد واقترب). في انتخابات أي بلد عربي لو جلس الناس بكل بساطة في بيوتهم ورفضوا النزول فما الذي سيحصل لهم؟؟ إن الناس لا تقرأ القرآن عما فعل فرعون بالجماهير (واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم) إن العقل معتقل وإن المثقف مقطوع اللسان. وإن مواطناً تقدم له بطاقة مخير فيها بين (نعم) و(لا) كحق دستوري ويشعر أنه مجبر على مخالفة ضميره لمواطن مسحور. إن السحر أعيد أحياؤه بعد موت هاروت وماروت بأربعة آلاف سنة.
يقول مالك بن نبي عن (إنسان ما بعد الموحدين) أن (نفسه المريضة تخلقت في جو يشيع فيه الإفلاس الخلقي والاجتماعي والفلسفي والسياسي). إن القرآن يبني فلسفته ليس على قتل الباطل، أو التآمر على النظام، ولا إشباع القلب بكراهية الحاكم أو محاولة اغتياله فكلها اختلاطات مربكة لا تزيد المرض إلا سوءً ولا حل المشكلة إلا بالابتعاد عن كل حل. ونعود إلى فكرة النماذج فالأول هو الإنسان العربي الحالي الذي طلق إرادته ثلاثاً في بينونة كبرى وهناك من يفكر عنه بالوكالة قد لبس حلة القاصرين. والثاني هو من تحررت إرادته من العبودية فرفض الطاعة. أما الثالث فهو الذي يقول قبل أن تهدموا الكعبة اقتلوني فلن أرى أو أسمح لما يحدث. إن الجيوش والشعوب العربية كلها تقاد إلى الكوارث من خطامها لأنها في حالة خدر لذيذ مغيبة الوعي عن التاريخ خارج العصر يفعل بها الأوصياء ما يشاؤون. إن شحن الإرادة من السلبية المطلقة إلى الإيجابية المطلقة هو محصل تيار إلكتروني عارم من الإرادة بدفعها باتجاه المثل الأعلى كما يفعل الليزر بتجميع حزم الضوء باتجاه نقطة واحدة حارقة. يروي المؤرخ ديورانت أن (كوبرنيكوس) اكتحلت عيناه بكتابه عن الأجرام السماوية قبل موته بساعة. ويبقى السؤال لماذا كان اكتشاف كوبرنيكوس انقلابيا إلى هذا الحد وهي لا تزيد عن شرح من يدور حول من؟ والجواب في ثلاثة زوايا: زلزلة أشد الأمور وثوقاً، وإعادة النظر في مفاصل أساسيات التفكير، وأن الأيمان يجب أن يحرر من الدوغمائية. فالإيمان هو تقليب النظر في السموات والأرض آيات لأولي الألباب، وأن الكفر هو إغلاق منافذ الفهم وتكميم الأفواه عن التعبير وأن الكافرين لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها. ويفيدنا هذا الأمر اليوم في إضاءة ثلاث حقائق: أن الشعوب هي التي تختار أصفادها فهي إلى الاذقان فهم مقمحون. وأن الحكام لا يزيدون عن كواكب انفصلت من جرم الشمس فهي تدور حول الأمة، وأن الحاكم على دين الأمة وليس العكس. وأن الكسوف الاجتماعي يتم عندما تكف إرادة الفرد عن التشكل فيبهت كل شعاع وتنضب كل طاقة ويدخل المجتمع ليل التاريخ. يقول بن نبي: (وطالما ظل مجتمعنا عاجزا عن تصفية هذه الوراثة السلبية التي أسقطته منذ ستة قرون فإن سعيه إلى توازن جديد سيكون باطلاً عديم الجدوى) وما يحتاجه المجتمع بالدرجة الأولى هي العلوم الأخلاقية والنفسية، أما العلوم المادية فقد تكون على حد تعبيره: (خطراً في مجتمع مازالوا يجهلون فيه حقيقة أنفسهم ومعرفة إنسان الحضارة أشق كثيرا من صنع محرك أو ترويض قرد على استخدام ربطة عنق).