بحث في بنية التخلف
بقلم: خالص جلبي
بتاريخ 16 يونيو 2021 كانت عاصمة خليجية تحتفل بالراقصة نجوى كرم، فغنت لجمهور زاد عدده على ستين ألفا من الأنام، في الوقت الذي تم تحديد عدد الحجاج للعام 1442 هجرية بـستين ألفا. وهكذا فالتقدم والتخلف في مجتمع قد يقاس بعدد الراقصين والطبالين التافهين، أو بعدد العلماء المبدعين. والتخلف عن العصر مرض اجتماعي، حين يفوت المجتمع قطار التطور، فيراوح في مكانه، ويدفع ثمن ذلك تعبا، وأحيانا قصورا خارقا، يقود إلى استعمار، وحروب أهلية، واستبداد يطول أو يقصر. وحسب مالك بن نبي، فالتخلف «بنية عقلية» فلا يرتفع ولو أمطرت السماء ذهبا وفضة. وفي الطب يعرف الأطباء شيئا اسمه التناذر (Syndrome)، وهو مجموعة من الأعراض والعلامات؛ إذا تزامنت عند مريض في وقت واحد، قيل عنه إنه مصاب بالمرض، مثل المنغولية التي تتصف بتراجع في الوعي، وعينين تذكران بتيمورلنك الأعرج. وينطبق هذا على المرض الاجتماعي؛ فإذا اصطبغ بحزمة من الأعراض، أخذ لقب التخلف. ولقد أحصيت عشرة منها، قد تصدق وقد تكذب، قد تزيد وقد تنقص، فيأخذ المجتمع نسبة التخلف، بقدر غرقه في مستنقع هذه الصفات؛ فإذا تحققت العشر، كان تخلفا كاملا، خارج إحداثيات الزمان والمكان. ولشرح ما مر تفصيلا نقول:
(1) إن الإنسان في المجتمع المتخلف «متهم» حتى تثبت براءته، موسوم بالخوف، يوم ولدته أمه، ويوم يموت، وحتى القبر حولته الثقافة إلى غرفة تعذيب، على يد منكر ونكير، بدل الإيحاء للإنسان، أنه قادم إلى رب رحيم كتب على نفسه الرحمة.
(2) وأما «الوقت» فمواعدنا بعد صلاة العشاء، بما يمط الزمن حتى مطلع الفجر، وأما موعد الإنجاز فمعلق بكلمة سحرية «إن شاء الله»، وهي في حقيقتها لن أفعل. ولكن درع الحماية فيها الله، الذي لا أحد له به طاقة، والله لا علاقة له بذلك، وهي مقلوبة من أصلها القرآني «ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا»، بل يجب إنجازه اليوم.
(3) ومع أن «الأصل في الأشياء الإباحة»، إلا أننا حولنا الحياة إلى سلسلة من المحرمات؛ فأصبح أصل كل شيء حراما، يحتاج إلى رخصة مرور، تحت القانون الميمي الثلاثي: ما في – ممنوع – ما يصير. وهذا اللوغاريتم التحريمي، يجمع منظومة محرمات، في أعلاها السياسة وأدناها كل تفكير، ولكن أليست كل الحياة سياسة؟ وأيهما أهم إطلاق اللحية وتقصير الثوب، أم آلية نقل السلطة السلمي؟
(4) ومع أن الرسول (ص) تأثر بجمال صوت أبي موسى الأشعري، حين تلا القرآن، ولكن هناك من يرى أن ذلك فتنة، ويجب إيقاظ الناس لصلاة الصبح بما يرعبهم، وأن الغناء والموسيقى حرام بدون نص واحد، إلا أن يكون مشبوها ضعيفا، في ثقافة تحرم كل شيء إلا ما ندر؛ فالأصل في الأشياء الحرمة وليس الإباحة، بسيقان عرجاء مقوسة، من صلصال من فخار.
(5) ومع دخول الحدود في (بعض) بلدان العالم العربي يواجه المواطن أربعا: القلة والذلة والوسخ ويتنفس جزيئات الهواء عابقة برجال الأمن، وأمام مدرسة ثانوية تم قطع ست عشرة شجرة خضراء بدعوى الحساسية. ويلقي الشباب بالقاذورات، ولو كان حاوي القمامة على بعد خطوات. وهناك حرص على نظافة البيوت داخليا، في الوقت الذي يبقى الشارع العام قذرا، في ما يشبه الانتقام من مجتمع لا ينتمي إليه الفرد. وكما يقول مالك بن نبي الحضارة ليست غنى، بل (نظافة)، ويمكن للفقير أن يلبس أسمالا بشرط أن تكون نظيفة، فلا تطل القذارة من الثياب، وتفوح من البدن رائحة التعرق، وهي لا تتطلب أكثر من الماء، وثيابك فطهر.
(6) وعندما تسلم سيارتك للتصليح يجب أن تُغش مرتين؛ بعدم الإتقان وبهدلة الفرش بالشحم، فالنظافة لا دخل لها في العمل. ينطبق هذا على كل شيء. فإذا دخل العمال إلى البيت لإصلاح السقف، تحول إلى مزبلة.
وهل يعقل أن سد زيزون كلف مليارا، وعمره لا يزيد على ست سنوات، أن يصاب بالشيخوخة وينهار كما انهار سد مأرب (في سوريا)؛ ما يذكر بمرض «البروجيريا» فتراه من كان في عمر الثماني سنوات، مقوس الظهر وكأنه ابن الثمانين، يموت بانفجار الوتين.
ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور. ولكن أي كفر هذا الذي حصل حتى انهار السد؟
(7) وأما «العقل» فهو محاصر بأسوار من النقل، وأما الاجتهاد فكان حجرا محجورا. وهو يفسر لماذا كانت رياح الإنتاج المعرفية شمالية غربية، وليس من الشرق إلا رياح السموم، تدمر كل شيء بأمر ربها.
(8) وأما «المكان» فحيثما سار الإنسان يجب أن يسأل. فالشوارع بدون أسماء، والبيوت بدون أرقام، والشقق بدون أسماء، وكيف يضع مواطن خائف اسمه على الباب؛ فيعرف ويسهل إلقاء القبض عليه، فيجب أن يبقى نكرة يتآمر أو يخطط ضده. مواطن متهم بختم على الحبل السري، منذ ولدته أمه. وكنا في ألمانيا نرفع سماعة التلفون إذا رن، فنصرح بمن نحن، وعندنا تسمع فحيحا وهمسا غير مفهوم، والسبب مواطن آمن، وآخر مرعوب ألوانا. وإذا وضعت أسماء الشوارع زينها الموظفون المنافقون بأسماء شخصيات يريدونها، مما يجعل الناس يتفقون على تسمية من عندهم.
(9) ومع كل نزول إلى الشارع يجب أن يكتب الإنسان وصيته؛ فقد تحولت الشوارع إلى ساحات حرب. وهي مؤشر عن أخلاق الإنسان الفعلية خلف مقود سيارة حديدي، حينما يستوي على ظهره، فبدل أن يقول سبحان الذي سخر لنا هذا على يد الألمان، لا يحسن استخدام ما تعب الآخرون في صناعته.
(10) وقد توأد المرأة على نحو جديد، وتوضع في علبة كبريت، وتحاصر مثل الوباء لأنها رأس الفتنة، وليس هناك من فتنة على الرجال أكثر من الحريم، وأكثر أهل النار النساء، وهي قاصرة عقل ودين تحتاج إلى الوصاية. وهناك من يضع في بطاقات الزفاف تزف (كريمة) فلان على فلان؛ فليس لها اسم، ويتم تبادلها مثل البضائع. ولكن هل يمكن للإنسان أن يرى بعين واحدة، ما لم يكن أعور، أم هل يستطيع أن يقفز بساق واحدة، كما في أسطورة شق وسطيح؟