انحطاط التأويل السياسي للفقه الشيعي: القدس.. عبر حرستا وحلب! (1/2)
«بإيعاز من قائدي، أنا مستعد للتضحية بحياتي/ الهدف ليس تحرير العراق وسوريا فحسب/ دربي يمرّ بالمقام الشريف/ ولكن هدفي هو إلى القدس/ عن طريق حلب».
هكذا تقول الأهزوجة، التي يؤديها أطفال إيرانيون يرتدون الثياب العسكرية المرقطة، استعداداً للتطوع للقتال في العراق وسوريا. وهذا شريط سينمائي دعائي وتعبوي، بل أنتجته وحدات الـ«باسيج»، أي «قوات التعبئة الشعبية» التي أنشأها آية الله روح الله الخميني في سنة 1979، وهي جزء من «الحرس الثوري»، الذي يتبع مباشرة للمرشد الأعلى.
قبل حلب، كانت بلدة حرستا موضوع «لطمية» هستيرية انتشرت كالنار في الهشيم، خاصة في صفوف ميليشيات المتطوعين العراقيين الشيعة، الوافدين للقتال إلى جانب النظام السوري في دمشق وأريافها؛ يقول مطلعها: «قدح من درعا الشرر/ وخصم مهدينا ظهر/ ومن حرستا ننتظر/ أوّل علامة/ زينب اليوم بخطر/ وسكنى بمرقدها انتثر/ يا أم رقية/ بكرا تقوم القيامة/ بكرا الجيش المنتظر/ يهتف يا حيدر»… وهذه «اللطمية» ليست تخريفاً هذيانياً، أو شعبوياً دعائياً صرفاً، لأنها في الواقع تزعم الاتكاء على حديث للإمام علي بن أبي طالب، ينسبه إليه ابن أبي زينب النعماني، في كتابه «الغيبة»: «إذا اختلف الرمحان بالشام، لم تنجل إلا عن آية من آيات الله. قيل: وما هي يا أمير المؤمنين؟ قال: رجفة تكون بالشام، يهلك فيها أكثر من مائة ألف، يجعلها الله رحمة للمؤمنين وعذاباً على الكافرين. فإذا كان ذلك، فانظروا إلى أصحاب البراذين الشهب المحذوفة، والرايات الصفر، تقبل من المغرب حتى تحلّ بالشام، وذلك عند الجزع الأكبر والموت الأحمر. فإذا كان ذلك فانظروا خسف قرية من دمشق يقال لها حرستا. فإذا كان ذلك خرج ابن آكلة الأكباد من الوادي اليابس، حتى يستوي على منبر دمشق. فإذا كان ذلك فانتظروا خروج المهدي».
والتخاريف حول ظهور المهدي لم تقتصر على منشد لطميات مثل حيدر العطار، بل اقترنت ذات يوم بالعدّة السياسية والعقائدية لرأس السلطة المدنية (إذا جاز التعبير) في إيران، أي الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد؛ الذي اعتبر أنّ «الإمام المهدي» هو الذي «يدير العالم ونرى يده المدبّرة في شؤون البلاد كافة»، بما في ذلك نصر إيران على العراق، وتقدّم البرنامج النووي الإيراني. كذلك جزم بأنّ المهدي هو «هالة النور»، التي تحيط به، أي نجاد، كلما ألقى خطاباً؛ وهو «يد الله»، التي سوف «ترفع جذور الظلم عن العالم»… وتلك هلوسات أثارت حفيظة بعض خصوم نجاد، من ممثّلي التيّار المحافظ أنفسهم، كما في تعليق حجة الإسلام غلام رضا مصباحي: «مؤكد أنّ المهدي المنتظر لا يقرّ التضخم الذي بلغ 20 في المئة، وغلاء المعيشة، والكثير غيرهما من الأخطاء».
ومع ذلك، فإنّ ما أغدقه حسن نصر الله، الأمين العام لـ«حزب الله»، من سجايا فائقة على شخص نجاد، كفيل بمنح الأخير فضيلة تمثيل شرائح واسعة من صانعي التشوّه والتشويه في الفقه السياسي الشيعي المعاصر: «نشمّ بك يا سيادة الرئيس رائحة الإمام الخميني المقدّس، ونتلمس فيك أنفاس قائدنا الخامنئي الحكيم، ونرى في وجهك وجوه كلّ الإيرانيين الشرفاء من أبناء شعبك العظيم الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه في كلّ الساحات، ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا». لافت، في هذا، أنّ ملايين الإيرانيين الذين لم يصوّتوا لنجاد، في الانتخابات الرئاسية التي أعقبت هذه المدائح، لم يشاطروا نصر الله في شمّ المقدّس أو إبصار الحكمة؛ بل الأرجح أنهم هم الذين ينطبق عليهم تصنيف الشرفاء والصادقين.
وما دمنا في سيرة نصر الله، لعلّ من الواجب استذكار التحوّل النوعي، المذهبي الصريح، في خطابه السياسي ابتداءً من العام 2013؛ حين أعلن، ليس دون فورة غضب أشدّ من المعتاد: «نريد أن نقول لكلّ عدو ولكلّ صديق، نحن شيعة علي بن أبي طالب في العالم»؛ «ونحن حزب الله. الحزب الإسلامي الشيعي الإمامي الإثنا عشري، لن نتخلى عن فلسطين»؛ وأيضاً: «قولوا رافضة. قولوا إرهابيين. قولوا مجرمين. اقتلونا تحت كل حجر ومدر، وفي كل جبهة، وعلى باب كلّ حسينية ومسجد، نحن شيعة علي بن أبي طالب»!.
صحيح أنه لم يستبق أهزوجة أطفال الـ«باسيج» الإيرانيين، في الربط بين حلب والقدس؛ إلا أنّ نصر الله لم يتلكأ عن استئناف لازمة كبرى في خطاباته، منذ أن أقرّ علانية باشتراك حزبه في القتال إلى جانب النظام: «إنّ وجود مقاتلينا ومجاهدينا على الأرض السورية، هو بهدف الدفاع عن لبنان والدفاع عن فلسطين وعن القضية الفلسطينية»!
والوشائج، الإشكالية منها بصفة خاصة، بين الفقه الشيعي المذهبي والفقه الشيعي السياسي، ليست موضوع هذه السطور، ولا يسمح بها المقام أصلاً؛ ما خلا التشديد على التئام البون بين التبشير والتفكير من جهة أولى، والفعل والممارسة على الأرض من جهة ثانية. وهنا تُتاح هوامش واسعة لتلمّس مقدار الانحطاط في تفكير يحثّ الأطفال على التطوّع للقتال من أجل القدس، ولكن عبر حلب؛ وممارسة ميدانية، في أصقاع مختلفة من سوريا، لا تخلص في نهاية المطاف إلا إلى مساندة نظام الاستبداد والفساد وحكم العائلة والوراثة وجرائم الحرب. وهكذا فإنّ مشهد «الثورة الإسلامية» في إيران يبدو اليوم بعيداً كلّ البعد، ولعلّه بات منفصلاً تماماً، عن ذلك المشروع الذي شاع سنة 1979، وانطوى على ما سُمّي بـ«بديل اجتماعي وقومي، في إطار ديني ثوري»، يسند إلى رجال الدين أدواراً اجتماعية وسياسية وإيديولوجية عابرة للطبقات والأديان والعقائد.
وسيبقى أنّ حال الانحطاط هذه ليست منفصلة، على أيّ نحو، عن مبدأ ولاية الفقيه؛ بل من المشروع للمرء أن يقول اليوم، كما في الماضي وعلى امتداد 37 سنة من عمر «الثورة الإسلامية»، أنّ الأمل لن يكون كبيراً في تعديل مسيرة الانحدار ـ الفقهي/ السياسي المشترك، هذه المرّة ـ ما لم يقف الإيرانيون موقف المراجعة الراديكالية الشاملة لهذا المبدأ بالذات، وتصحيح علاقته بالحياة والحقّ والحقوق، وبالسياسة في الداخل والجوار والعالم.
وذات يوم غير بعيد، كان آية الله أحمد أزاري ـ قمّي، أحد كبار شارحي فكر الخميني ومنظّري ولاية الفقيه، قد اشتكى ـ في رسالة مفتوحة إلى الرئيس الأسبق محمد خاتمي، وقعت في 34 صفحة، تمّ تداولها على نطاق واسع ـ من أنّ الأجهزة الأمنية المرتبطة مباشرة بمكتب خامنئي أخذت تضيّق الخناق عليه، بعد تنكيلها بالشخصية البارزة المعارضة آية الله منتظري، بسبب معارضته العلنية لمبدأ ولاية الفقيه. وانطوت الرسالة على هذه المناشدة، بعد تذكير الرئيس أنّ 23 مليون إيرانية وإيراني صوّتوا له: «بهذا التصويت وضع شعبنا الشجاع قيادتنا الراهنة بأسرها تحت المساءلة، وأنا فخور بهذا. ولكن حذار، سيدي الرئيس، من أن تكون آخر رؤساء الجمهورية الإسلامية، لأنّ هذا قد يكون مصيرك إذا لم تتحرّك الآن من أجل الوقف الفوري للمظالم التي تلحق بالناس تحت اسم الإسلام».
هل كان أزاري ـ قمي ينفخ في قربة مقطوعة؟ أغلب الظنّ، إذا استعرض المرء مسارات الانحطاط اللاحقة: من نبوءات أحمدي نجاد، حول «المهدي يد الله»؛ وصولاً إلى نصر الله وقاسم سليماني، حيثما اختارا جغرافية تزييف المسير نحو القدس؛ وصولاً إلى أطفال خامنئي، المتطوعين للجهاد في حلب.