انتهى زمن «ركن التعارف»
أخرج رجل غاضب كومة رسائل ووضعها على مكتبي، وهو يصيح: «شيء لا يصدق». فقد أصبح ساعي البريد زائرا مداوما لبيته كل صباح، يحمل ما لا يقل عن أربع أو خمس رسائل في اليوم الواحد.
هدأت من روعه، من دون أن أدري سبب انزعاجه الطافح. ما العيب في أن يحمل ساعي البريد رسائل يومية، إن كانت قادمة من الأهل والأحبة والأصدقاء؟ وراودتني فكرة أن أسعد أيام العمل في الصحيفة، هي تلك التي تحمل أكبر قدر من الرسائل. أكانت تعرض إلى مظالم أو تتضمن مشروعات إبداعية في الكتابات الأولى. فالرسائل زاد الصحافة أيام طغيان الأبيض والأسود.
لا بأس إن كان البريد يتأخر، فقد أبدع محررون وإداريون طريقة أكثر سرعة في إيصال المواد الصحفية. إذ يكفي أن يضع مراسل الصحيفة رسائله في مظروف يكتب عليه «عبر الساتيام» ويسلمه لمساعد السائق، ثم يتولى عون الإدارة حمله من مقر شركة النقل إلى إدارة الجريدة.
في جريدة «العلم» تحديدا كان ثلاثة أعوان إدارة يتولون هذه المهمة بالتتابع. وأسعدهم من لا يصادفه تأخير موعد وصول الحافلة، إن كانت قادمة من الدار البيضاء أو طنجة أو أكادير. إنه نظام يشبه طرق الري التقليدي عبر قنوات جلب المياه، ومن كان بيته بلا عداد ولا تجهيزات عهد إلى الأبناء بملء السطل من أقرب سقاية، تروي ظمأ العطش بلا مقابل. غير أن الماء الذي كان يوزعه حملة قرابين جلد الماعز من دون مقابل، إلا الدعاء بالخير والعافية، صار مرتفع الكلفة، كلما تطورت الخدمات.
لماذا يشتاط الرجل غضبا، وكل ما في الأمر أن بيته أصبح قبلة لساعي البريد؟ سألته بهدوء: ما المشكل؟ فرد أنه لا يفهم من أين توصل أصحاب تلك الرسائل إلى عنوانه. وأوضح أنه يعيش وحيدا رفقة زوجته في حي بسيط في مدينة المحمدية، لا أبناء لديه ولا صداقات تحتم انتظار رسائلهم.
أخذت من كومة الرسائل اثنتين أو ثلاث. جميعها كانت موجهة من أمكنة وعناوين متباينة، وتحمل اسم المرسول إليها، شابة في مقتبل العمر. بعض الرسائل كانت تفيض بأشعار الغزل، وبعضها يتحفظ من غير تقديم استبيانات عن اسم صاحبها وعنوانه وهوايته، فيما البعض يتضمن صورا فوتوغرافية لشباب تفننوا في اختيار صورهم.
سألته إن كانت بنت الجيران تحمل ذلك الاسم الذي تقاطرت عليه الرسائل، فرد بأنه «ليس مقدم الحومة». وطلب نشر خبر يفيد أن العنوان المرسل إليه لا توجد به شابة مغربية، عسى أن يتوقف تقاطر الرسائل. وفي الأصل أن عنوان الرجل باسم فتاة انزلق بين الأسطر على إحدى قوائم «ركن التعارف» الذي كان أكثر استقطابا للقراء الشباب. وحدث أن رقم عنوانه اختلط عند تصفيف المادة.
علاقة الأخطاء بالصحافة لا حصر لها، لكن أن تخطئ الرسائل العنوان المقصود، فقد كانت سابقة. وتوصل بريد الجريدة برسائل تضمر الانزعاج. فقد أرسلت شابة إلى الصحيفة بعنوانها وهوايتها، من دون أن تخبر الأهل الذين ذهلوا إزاء الأعداد المتزايدة من الرسائل التي صارت تتوصل بها بنتهم. وكتبت ترجو تصحيح ما اعتبرته خطأ، بما مفاده أن البنت إياها التي قالت إنها تهوى المراسلة والسباحة وزيارة المآثر التاريخية، رحلت إلى مدينة أخرى.
من غرائب رسائل ركن التعارف أن البعض يميل إلى تقديم حقائق مغلوطة، كأن تقول الفتاة إنها «رائعة الجمال»، مع أن الأصل في الجمال طيبوبة القلب واللسان والسلوك، أو يستعير شاب اسم فتاة لتلقي رسائل المعجبين، إلا واحدة على الأقل من بين رسائل ركن التعارف حملت بشرى إلى أسرة التحرير، تقول إنها تمكنت من ربط علاقة تعارف أدت إلى زيجة شرعية، وإنها لا تريد أن تحتفل بالزواج دون إشعار القراء.
في «كليشيهات» متعارفة أن غالبية الأوصاف والنعوت التي تحملها الرسائل تتحدث عن هوايات السفر والقراءة وجمع الطوابع البريدية التي كان لها روادها والمعجبون بفنها ودلالاتها، إضافة إلى أنواع الرياضات ومشاهدة الأفلام السينمائية، ولم تكن الأنشطة الاجتماعية تحظى إلا بقدر ضئيل من الاهتمام.
كان ركن التعارف جاذبا، في وقت لم تكن فيه ثورة الاتصالات عرفت هذه الطفرة النوعية التي تبدو في طريقها لإلغاء تقليد الرسائل وهوايات جمع الطوابع. وبينما كان هناك متحفظون على نشر هذا الركن، بدوافع أخلاقية، كان هناك من يرى أن الأهم أن يجد الشباب في الصحيفة ما يبحثون عنه. وأذكر بهذا الصدد أن الأستاذ عبد الكريم غلاب، الذي عرف بتشدده في مواجهة النظام كصوت معارض عنيد، كان يدفع في اتجاه نشر أخبار الأنشطة الرسمية، كي يعرف القارئ ما يدور حوله، وكان يفرق بين نشر هذه الأخبار والتعليق عليها، لكنه في قضية «ركن التعارف» لم يكن متحمسا، بل أبدى مرات تحفظه إزاء دور الصحافة في هذا المجال.
لا وساطة اليوم بين الراغبين في التعارف، عاشت التكنولوجيا التي ألغت دور الرقابة الذاتية والخارجية. ولكل امرئ أن يختار معارفه عبر الهواتف الذكية ومواقع التواصل الاجتماعي التي لا حدود لسطوتها على العقول.