انتخابات أمريكا بين الشأنين الخاص والعام
محمد المنشاوي
قبل أربع سنوات، وفي خضم تغطية الانتخابات الرئاسية لعام 2016، اقتربت من حادثتين تمازج فيها الشأن الأمريكي العام بالشأن الشخصي والعائلي، وامتدت آثارهما وتبعاتهما وصولا إلى اقتحام أنصار الرئيس السابق دونالد ترامب لمبنى الكابيتول، في محاولة لعرقلة تصديق الكونغرس على نتائج انتخابات 2020.
بداية، أسكن في أقصى شمال «شمال غرب» العاصمة واشنطن، وهي منطقة تصوت بنسبة 90 في المائة للمرشح الديمقراطي بعيدا عن اسمه أو برنامجه، وجذبت هذه المنطقة السكنية الهادئة اهتمام وسائل الإعلام الأمريكية والعالمية عام 2016.
فقد استضاف مطعم «ماجيانو Maggiano»، ويبعد عن بيتي بأقل من 80 مترا، فاعليات احتفال كبير احتفاء بانتصار ترامب بالرئاسة ووصوله إلى البيت الأبيض. منظمو الحفل كانوا مجموعة ممن يؤمنون بسمو الجنس الأبيض White Supremacist. ولم يعلم المطعم مسبقا بهوية منظمي الحفل الذي حضره ما يقرب من 200 شخص، دفعوا 10 آلاف دولار كتكلفة إجمالية.
وأدت تغريدات المحتفلين على موقع «تويتر»، والتي تضمنت صورهم ومقاطع فيديو تضمنت استدعاء عبارات وإشارات نازية تنادى بسمو العرق الأبيض إلى ردود أفعال غاضبة. وفور نشر هذه التغريدات تجمع العشرات من جيراني أمام المطعم، احتجاجا على وجود هؤلاء العنصريين في هذا المطعم الشهير، والذي يعد جزءا لا يتجزأ من تاريخ الحي. ومنعا لوقوع أي صدامات، قامت الشرطة بتأمين خروج المحتفلين بعد انتهاء الحفل، وباعدت بينهم وبين المحتجين من سكان المنطقة.
الحدث الثاني وقع على بعد ستمائة متر من منزلي، حيث يقع «كوميت Comet»، وهو مطعم بيتزا عائلي شهير أكثر ما يميزه هو وجود ثلاث طاولات للعب «البينغ بونغ» داخله. وتقوم فلسفة المطعم على إضفاء جو من البهجة في المكان، وتشجيع الزبائن وأطفالهم على لعب «البينغ بونغ» قبل أو بعد تناولهم الطعام، وذلك دون أي تكلفة إضافية. وفى خضم الحملة الانتخابية لانتخابات 2016، انتشرت أخبار كاذبة على الإنترنت لتدعي وجود شبكة سرية يديرها جون بوديستا، مدير حملة كلينتون الانتخابية، لاستغلال الأطفال جنسيا واغتصابهم في غرف سرية داخل مطعم كوميت.
وما كان من مواطن يسكن في ولاية نورث كارولينا، إلا أن يأخذ على عاتقه مهمه الكشف عن هذه الشبكة الشريرة. وجاء الرجل ويدعى إدجار ماديسون ويلش، بعدما قطع مسافة تزيد عن خمسمائة كيلومتر للتحقق بنفسه ولتحرير هؤلاء الأطفال. والرجل أب لطفلين وشعر بواجب اجتماعي لإنقاذ أطفال في سن أولاده. وأحضر الرجل معه بندقيته النصف آلية، واقتحم المطعم مطالبا بالكشف عن الغرف السرية التي يحتجز بها الأطفال الضحايا وتحريرهم. وبالطبع لم يعثر الرجل على شيء، ولم يؤذ أحدا، هو فقط أطلق طلقة تحذيرية كانت كفيلة بإثارة الهلع وخروج رواد المطعم والعاملين به إلى الخارج. وألقت الشرطة القبض على الرجل الذي لم يقاومهم، بل حاول إقناعهم بالبحث معه عن الغرف السرية، التي ربما توجد تحت الأرض. وعُرفت الحالة باسم «بيتزاجيت»، في إشارة إلى الفضيحة التي كان ضحيتها رجل برئ، صدق فقط ما نشره أحد المواقع الإخبارية المؤيدة لترامب.
وبعد الحادثة بأيام، ذهبت وعائلتي إلى مطعمنا المفضل، ولم تكن الزيارة مثل سابقتها، فأول من استقبلنا على الباب الخارجي كان شرطيا مسلحا ابتسم في وجوهنا قبل أن يرحب بنا، وتأكدت في هذه اللحظات أننا نحيا في مجتمع أمريكي، نجح الرئيس السابق دونالد ترامب في دفعه إلى حافة الجنون.
خلال صيف 2020، وقبل اشتعال الحملات الانتخابية في مراحلها النهائية، سافرت في عطلة إلى قرى وشواطئ ولاية كارولينا الجنوبية، وهي إحدى أكثر الولايات دعما للرئيس السابق ترامب. وقررت الاقتراب قدر الإمكان من أنصار ترامب، وإذ بي أواجه بواقع مختلف عما تعرفه وتتعامل مع النخبة السياسية والإعلامية بواشنطن العاصمة. والبداية كانت مع انتشار علم غريب يضعه الكثير من المواطنين، فوق سياراتهم وأمام منازلهم. وبسؤال أحد المواطنين، ممن رفعوا هذا العلم الغريب فوق سياراتهم، عن العلم، رد بالقول: «هذا علم إظهار الدعم للشرطة ورجالها الأبطال، وهو رد على كل ما يتعرضون له من انتقادات».
وأثناء وجودي في مدينة ميرتيل بيتش الساحلية، في الأسبوع الأخير من شهر ماي، أقمت لمدة أسبوع داخل أحد معسكرات البيوت المتنقلة (كرفانات)، والتي تضاعف اللجوء إليها مع فرض قيود على السفر والطيران، وحيث انتشرت أعلام حملة إعادة انتخاب الرئيس ترامب.
واعتبر كثيرون ممن تحدثت إليهم أن «هؤلاء ممن يقيمون ويعملون في مدن ليبرالية يسارية مثل واشنطن ونيويورك، لا يمكنهم فهم أو تقدير ما يقوم به ترامب لخدمة الشعب الأمريكي».
وأدركت خلال هذه الرحلة إلى الجنوب الأمريكي حجم التحديات، التي نحن بصددها أمام انتخابات فريدة لن يقبل نتائجها أنصار الرئيس ترامب، بعدما تم توفير كل ما يدعم شكوكهم في نزاهة الانتخابات، من خلال آلاف المواقع وملايين المساهمات في صفحات على وسائل التواصل الاجتماعي، وقبل ذلك كله رئيس تعهد خلال حملته الانتخابية، بعدم الاعتراف بنتائج الانتخابات إذا خسرها.
صمدت ديمقراطية أمريكا أمام أكبر تحدياتها والمتمثلة في رفض رئيس في السلطة الإقرار بهزيمته، ورغم ما سببه ترامب من زلازل سياسية في السياسة الأمريكية، انتصرت المؤسسات أما رئيس لم يقتنع أن منصبه هو وظيفة مؤقتة تنتهي في تمام الساعة الثانية عشرة ظهر يوم 20 يناير، وليس له أن يبقى بعد دقيقة واحدة رئيسا بعد ذلك الوقت، وهو ما كان.