انتحار العلماء والأطباء
خالص جلبي
كان حزني كبيرا حين قرأت كتاب (فيزياء المستحيل) لمؤلفه ميشيو كاكو، فمررت على قوانين التيرموديناميك الثلاثة وكنت أقول أعرف الثاني جيدا عن الأنتروبيا والفوضى والفساد الكوني، بقي علي أن أعرف الأول والثالث، فعرفت أنها مبدأ حفظ الطاقة وأن لا سبيل للوصول إلى الصفر المطلق الذي وصل إليه كالفن بمحض الرياضيات، وهو درجة (273.15) تحت صفر تجمد الماء.
حديثي ليس عن الفيزياء، بل عن العبقري لودفيج بولتزمان الذي وصل إلى فهم البناء الذري وقوانين الترموديناميك. ولكنه واجه حربا شرسة من شخصيتين لا يستهان بهما الأول (أرنست ماخ)، (سرعات الطيارة تقاس باسمه، أي أكثر من سرعة الصوت بكذا مرة). والثاني (هنري بوانكاريه) الذي أقدره كثيرا وقرأت عنه الكثير، بل لمحت موقفا للمترو في مونتريال باسمه، حيث كرس الرجل نفسه في علم الرياضيات وصاغ معادلة عجيبة في تفنيد أفكار بولتزمان.
كانت النتيجة أن الرجل، أي لودفيج بولتزمان، دخل أزمة نفسية حادة دفعته إلى الانتحار فمات مشنوقا بيده.
قصص المنتحرين حزينة جدا وأذكر منها الروائي النمساوي (ستيفان تسفايغ)، الذي سحرت بقراءة رواياته (ساعات القدر في تاريخ البشرية ـ أعاظم رجال النهضة ـ ماجلان ـ تولستوي)، فبعد أن تعرفت على الرجل سارعت (كما فعلت مع كتب مالك بن نبي والنيهوم والوردي العراقي) في اقتناء كل كتاب ترجم له.
هذا الروائي قام بانتحار مزدوج مع زوجته، بعد أن فر من النمسا إلى البرازيل مع صعود نجم النازية. ربما رأى فيها تبخر كل أمل وحلم.
قصص الانتحار تطول أناس شتى من هتلر إلى الزعبي في سوريا أو كنعان أو عبد الكريم الجندي، رجل المخابرات المجرم المعروف. الأخير مررت بجنب قبره في السلمية، فقرأت على شاهدة القبر الحجرية «ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا، بل أحياء عند ربهم يرزقون»! فهززت رأسي عجبا ومضيت.
أحيانا أتساءل في نفسي عن نهاية الأسد الصغير العجي، هل ستكون نهايته بوطوية على غرار رجل دينه والمفتي؟ هل سيفر مع جبل من الدولارات والأورو وبضعة أطنان من ذهب الخزينة المركزية، كما فعلت زوجة شمس الواعظين وقرة المتقين؟ هل سيقتله من حوله؟ هل سيحكم سنوات قادمات، ملعونا من نصف الشعب السوري على الأقل، ومعهم جثث مئات الآلاف، وملايين الآهات؟
لا أحد يعلم الغيب فيجيب،
رأيت فيلما اسمه (السر SECRET) خلاصته آية قرآنية يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم. ما تحمل من مشاعر ترسلها إلى الكون ترتد عليك.
في القرآن آية معبرة «فكلا أخذنا بذنبه».
حديثي عن الانتحار وانتحار بولتزمان الذي أحزنني، كما أحزنني من قبل انتحار الروائي النمساوي تسفايغ، أو العربي الحاوي، حين دخل شارون بيروت.
أضيف إلى هذه المعلومات إضافة عن انتحار الأطباء وهو أعجب؛ فمن أعجب القصص التي قرأتها في مجلة «دير شبيغل» الألمانية عن انتحار الأطباء في ألمانيا، لكونهم أكثر الناس رفاهية وأشدهم رهبة واحتراما في المجتمع، ولكن تبين أن تحت الأكمة ما تحتها كما يقول المثل. فقد روت المجلة في عددها 14 من عام 2002م، تحت عنوان أن أحد الجراحين قام بانتحار مهني متقن، فقد حقن في المغبن مادة مخدرة قوية، ثم حضر كمامة مشبعة بالايتر وهي مادة مخدرة أيضا، ثم أمسك بالمبضع الجراحي ففتح منطقة المغبن الأيسر، حيث يمر الشريان الفخذي وهو شريان لا يرقأ فعمد إلى قصه بالكامل، ثم استلقى بدون أن يشعر بالدم الحار أو الألم، وبعد دقائق كان الجراح لا يزيد عن جثة من دون حياة.
هذه الواقعة ليست فردية فقد سجلت المجلة أن اليأس من الحياة والميل للانتحار بين الأطباء يصل سنويا إلى 200 حالة، ويذكر الدكتور بيرنهارد مويلن أنه يصادف ما لا يقل عن حالة واحدة شهريا، وكمية الزملاء الذين عالجهم في فترة قصيرة من أفكار القنوط زاد عن مائة.
يصل عدد المنتحرين في المهن بين الأطباء نسبة الضعف إلى غيرهم، وترتفع عند النساء إلى أربعة أضعاف، وسجلت واقعة للدكتور كريستينه باور وهي طبيبة طيارة أنها تناولت الكحول والحبوب، ثم عمدت إلى حقنة إنسولين فحقنت نفسها، ودخلت في حالة سبات، وهي ما زالت لا حية ولا ميتة منذ سنتين.
يقول التقرير إن الأطباء بنباهتهم وذكائهم يقومون بالانتحار بشكل متقن، كما في قصة الجراح.
ومن أفظع القصص أن طبيبا قام بانتحار رباعي، حيث ابتلع كمية كبيرة من الحبوب المنومة، ثم حقن نفسه بالمورفين، ثم اعتلى كرسيا وربط عنقه إلى حبل، ثم أطلق الرصاصة في قلبه، بحيث إنه لا ينجو من موت واحد فضلا عن أربع ميتات؛ فانتحر هذا الجبار أربع مرات.
يقول التقرير إن معظم الأطباء ينصحون أولادهم بالابتعاد عن هذه المهنة. بالمناسبة هذا ما نصحت به بناتي، فخرج منهن مثقفات وكاتبات وباحثات في الأديان المقارنة، وكانت أصغرهم محامية فأنا فخور بهن، ولم يكن منهن طبيبة واحدة. مع ذلك لم أنتحر أنا كما ترون فمازلت أكتب! هل تعلمون السبب؟ لأن عشرة بالمائة مني طبيب وتسعون بالمائة مفكر، لذا فقد انتهيت حاليا من الطب وباشرت حياتي الفعلية متفرغا للفكر، فادعوا لي بطول العمر.
وقامت مجلة طبية من مدينة ميونيخ الجنوبية بدراسة الحالات، واعترفت أنه حقل لم يبحث بعد، وذكرت ثلاثة أسباب رئيسية للانتحار: أولها كسب المال؛ فمن اقترب من الإفلاس فجر رأسه بالغدارة، ومنها ضغط العمل لأنهم يشتغلون أكثر من خمسين ساعة في الأسبوع، ولذا فهناك أكثر من عشرين ألف مدمن، وأكثرهم من أطباء التخدير أو الجراحين أو أطباء النسائية، وثالثا الانفكاك عن جو الأسرة.
يقولون في يوم تشاجر طبيب العيون العالمي يورغن هاينريش مع زوجته؛ فقام بتوجيه طلقة إلى فمه فمات. ومن أعجب التقارير أن الاتصال الجنسي يبعث في النفس البهجة، بسبب امتصاص جسد الأنثى مفرزات هورمونية وبالعكس فيمنح السكينة.
ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا (لتسكنوا) إليها وجعل بينكم مودة ورحمة.