شوف تشوف

الرأي

انبثاق الوعي من رحم التعقيد

بقلم: خالص جلبي

فاتح الفيزيائي المشهور (أينشتاين) طبيبه بإحساسه بانتفاخ غير عادي في البطن، مع الشعور بنبض الورم وشيء من الألم الخفيف. ولدى الفحص كان التشخيص مفزعا، إنها أم دم أبهرية بطنية، (أنورزما) باللاتيني.
كان ذلك في الخمسينات ولم تكن جراحة الأوعية قد تطورت بما فيه الكفاية، وكل تقنيات الشرايين الصناعية جاءت بعد حرب كوريا. واليوم يمكن الدخول على (أم الدم) البطنية بسهولة، وما زال هناك قدر من التحدي في أمهات الدم الصدرية. وأعرف سيدة فاضلة في دمشق قضت نحبها بأنورزما صدرية. وسبب موت الناس بالأنورزما، هو النزف الصاعق في مدى 20 دقيقة أو هو أقرب، حيث يخسر المريض كل دمه من فوهة لا ترحم، تصب الدم في شآبيب بأشد من مطر الغابات الاستوائية. ويقوم جراحو الأوعية اليوم بالتدخل على مكان الانتفاخ بقطعه بالكامل، وتعويض المكان بقطعة من مادة الداكرون أو الجورتكس (Dacron & Goretex) تصمد في جسم المريض حتى القبر.
كان أينشتاين مدخنا ومات لاحقا بمرض (انتفاخ جدار الشريان)، ولم يستطع الجراحون فعل شيء له. وأمام الفاجعة قام أحد الأطباء سرا بانتزاع دماغه من القحف وحفظه على نحو غير شرعي، للاستفادة من مظاهر العبقرية في دماغ صاحب (النظرية النسبية) فلعل سرا مغيبا يقبع بين تلافيف دماغه، ولم يكن مخطئا تماما في تصرفه هذا، فما زال العلماء يرجعون إلى دماغ أينشتاين يستنطقون خلاياه أين سر الإبداع؟ وحتى اليوم فإن العلماء حيارى في ظاهرة العبقرية، هل هي كمال غير عادي في البناء الخلوي؟ هل هي ترابط خاص بين الشبكات العصبية؟ أم هي مادة كيمياوية تنتقل في شيفرة سرية بين خلايا الدماغ؟
إن الفحوصات التشريحية حتى الآن لم تظهر شيئا واضحا، يعول عليه كمشعر للتفرد العقلي، سواء في دماغ أينشتاين أو سواه من العلماء المبدعين. كذلك فإن وزن الدماغ ليس معيارا في تفاضل الإنسان بين عبقري وأبله. ويضرب علماء النفس المثل في هذا بين دماغ (أناتول فرانس) الفرنسي و(إيفان تورجينيف) الروسي، وكلاهما كان من الأدباء اللامعين، مع أن دماغ (تورجينيف) كان يزن أربعة أرطال وسبع أوقيات، ما يعادل ضعف دماغ أناتول فرانس.
وبالمقابل فإننا نعرف أن دماغ الإنسان يزن ثلاثة أضعاف وزن دماغ الغوريلا، مع أن حيوان الغوريلا يزن ثلاثة أضعاف وزن الإنسان. وبمقارنة وزن الدماغ إلى الجسم، فإن الإنسان يحمل دماغا أكبر من دماغ الغوريلا بتسع مرات. مع هذا فإنه لا يزيد على 2 في المائة من وزن الجسم.
واليوم يعرف العلم أنه لابد من (كتلة دماغية حرجة)، كي يكون الدماغ إنسانيا ينبثق منه الإدراك، وهي في حدود كيلوغرام واحد تقريبا. والأطفال الذين يولدون بدماغ صغير (Microencephalopathy) يحرمون من الذكاء، وهذا يفتح نافذة على فهم (انبثاق الوعي) من (رحم التعقيد)، أي أن الشبكة العصبية في المخ يجب أن تصل إلى (كتلة معينة) حتى ينبثق منها الوعي والذكاء.
وكشف علم (الأنثروبولوجيا) أن دخول الإنسان مرحلة الإدراك ترافق مع ازدياد وزن الدماغ تدريجيا، خلال خمسة ملايين من السنين من 450 سنتيمترا مكعبا، كما كان في إنسان (لوسي) قبل 3,2 ملايين سنة إلى 1350 غراما اليوم كمقدار وسطي لوزن دماغ الإنسان.
وفكرة (الكتلة الحرجة) تنطبق على كل ميادين الحياة. وعندما يحصل (التراكم الكمي) فيصل إلى نقطة حرجة، يتولد منه الانقلاب النوعي. ويمكن النظر إلى تطبيقات هذا في (البناء الذري) و(الفيزياء) و(النفس) و(المجتمع)، فقد عرف أن السلاح النووي حتى ينفجر لابد له من (كتلة حرجة) من مادة اليورانيوم. كما أن الماء لا يغلي إلا إذا وصل إلى (الدرجة) الحرجة. ولا يبكي الإنسان إلا عندما تصل النفس إلى (عتبة) حرجة من التأثر. كما أن الثورات في المجتمع تندلع عندما تصل الأوضاع إلى (الدرجة الحرجة) من السوء والظلم.
وأمام صمت العلم في (ظاهرة العبقرية)، سواء من البوابة (التشريحية) أو (الكتلة والوزن)، يطرح السؤال العلمي نفسه: إذا لم نجد شيئا جليا في التركيب التشريحي فأين هو مكان العبقرية؟ أليس من الحكمة الاحتفاظ بأدمغة الأفذاذ من الناس، ريثما يظهر إلى السطح السر المغيب من أجسام عظماء ذوت من المرض؟
وأمام خسارات من البشر الرائعين ظهرت بعض الأفلام مثل «كابتن فيوتشر»، الذي يبدو فيه دماغ عالم متوهج محفوظ في وعاء يطير في الجو، كيف يشاء يرافق فريقا علميا لاكتشاف المجرات.
والسؤال هل يمكن زرع دماغ رجل في جسد شاب تعرض لموت الدماغ، سواء كان فيزيائيا عبقريا مثل أينشتاين، الذي جعلته مجلة «التايم» الأمريكية في عام 2000م نجم القرن بدون منازع، أو مصلحا اجتماعيا مثل غاندي، الذي أعتبره شخصيا أنه أهم من أينشتاين. بسبب بسيط أن فيزياء أينشتاين قادت إلى قنبلة هيروشيما، أما غاندي فقد اقتربنا بأسلوبه من فهم الإنسان أكثر؟ وما ينقصنا كما يقول عالم النفس السلوكي (سكينر)، هو فهم (السلوك الإنساني) أكثر من وضع الإنسان على ظهر القمر، أو تفجير الذرة، أو إرسال الباثفايندر إلى المريخ، أو سباحة مسبار جاليلو حول قمر المشتري (يوربا).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى