شوف تشوف

الرأي

اليوسفي يدعو بوليساريو إلى تشكيل حزب معارض

لم يمانع الزعيم عبد الرحمن اليوسفي في الاجتماع إلى منشقين انفصاليين من جبهة بوليساريو، بطلب ملح منهم. فقد كان الأمر لديه سيان، لأن معارضة النظام لها مبرراتها السياسية المقبولة، في إطار الصراع الذي يخمد برفع الراية البيضاء، اقتناعا وتفاهما. أما معارضة وحدة وسيادة الأوطان فلا مكان لها في فكره وتجربته ويقينه.‬
‫ لم يحدث على امتداد النزاع أن طلب الاجتماع في السر والعلن جاء من غير بوليساريو. وفي الحالات التي رغبت فيها الجزائر إحراج المغرب تمنت عليه مجرد الاجتماع إلى بعض قياديي الجبهة، كي تكون الجزائر حققت بعضا من أهدافها المتمثلة في حمل صنيعتها لتصبح «محاورا». وسيطرت هذه الرغبة على العقول، ليس بدافع البحث عن مخرج مشرف، ولكن لتوريط المغرب في خطوة «المفاوضات المباشرة».‬
‫ ما من شك في أن البشير مصطفى السيد، الرجل الثاني في جبهة بوليساريو، في فترة التئام ذلك اللقاء الذي كان عابرا بلا نتائج، يذكر تفاصيله، لأنه صاحب المبادرة، وإن أغلق اليوسفي أمامه كل الأبواب، بأسلوب رصين يعتمد على محاججته التي لا يمكن أن يزايد عليها أحد. فهو معارض لكنه وحدوي. كان السجن أحب إليه من أن يتنازل عن أفكاره السياسية، فبالأحرى نهجه الوطني، وهو رجل السلاح والكلمة في مواجهة الاستعمار، دفاعا عن الاستقلال والسيادة والوحدة.‬
‫ وجاء اختياره من دون غيره لأسباب عديدة، منها أنه كان موجودا في عين المكان في بلغراد للمشاركة في مؤتمر حزبي لرابطة الشيوعيين اليوغسلاف، وكذلك لأنه كان يعارض السياسة التي يتبعها المغرب كوجه معارض بارز، علما أنه إذا كان من قضية التف حولها المغاربة موالين ومعارضين، يساريين ومحافظين وإسلاميين وفوضويين، هي ملف الوحدة الترابية، باستثناء المنظور الإيديولوجي لبعض من كانوا محسوبين على تيار الماركسية – اللينينية، ممن سيغيرون رؤيتهم لأبعاد الصراع لاحقا.‬
‫ لم يتحدث اليوسفي في أي وقت عن هذه الواقعة، فقد يكون ارتأى أنها لا تستحق الذكر، وأنها لا تعدو تجسيدا لموقف لا يخدشه عارض، مهما كانت نوعيته وظروفه. وسمعته يشيد بخصال المقاوم أحمد زياد الكاتب الروائي. فقد ذهب إلى بيته معزيا بعد أن غيبه الموت، والتفت يسأل إن كان ترك مذكراته عن فترة انتسابه إلى المقاومة، وعلق أحد الحاضرين: حبذا لو يطلع السي عبد الرحمن الأجيال الجديدة على ما عاشه وأدركه. لكنه ابتسم بما يفيد أن الوقت وحده يحسم في مسائل إنصاف التاريخ.‬
‫ المشكل أن المغاربة لا يكتبون إلا نادرا، ولا يتحدثون إلا لماما. وأكثريتهم، ممن أسهموا في صنع التاريخ لم يسجلوا وقائعه. ولا أزعم أن لقاء عابرا مثل ذاك الذي جمع بين عبد الرحمن اليوسفي والبشير مصطفى السيد يستحق ما هو أكبر من الحواشي، غير أنه في مغازيه بعيدة المدى كان يعكس انهيار خطة تحريض فصائل المعارضة الوطنية التي اعتبرت أكثر تشددا في المسألة الوطنية.‬
‫ كنت بصدد الحديث مع الكاتب الصحفي محمد باهي الذي يعتبر أكثر اطلاعا على خبايا ملف الصحراء، وأسر لي يوما في حضور الصديق محمد بن يحيى أن الجزائر حاولت بجهود مضنية استمالة شخصيات مغربية معارضة لتزكية طرحها الانفصالي، دون جدوى. أضاف أنهم حاولوا مع الفقيه محمد البصري إبان فترة تردده على الجزائر، ومما قاله في الأثناء إن أحد قياديي بوليساريو رتب اللقاء مع اليوسفي، من منطلق أنه لم يكن يعارض في محاورة أشد الخصوم ضراوة لإقناعهم بأنهم يسيرون في الاتجاه الخاطئ.‬
‫ وتناهى إلى العلم في وقت لاحق أن القيادي السابق في بوليساريو مصطفى بوه الذي التحق بالمغرب، ربما كان الشخص الذي تولى مهمة الاتصال باليوسفي، ما يجعل شهادته في هذا السياق ذات أهمية خاصة. وأخبرني الراحل محمد باهي أن زعيم الاتحاد الاشتراكي تمسك بموقفه المبدئي، لناحية دعوة بوليساريو لتشكيل حزب سياسي معارض داخل المغرب. وسبقت دعوته تلك ما تردد من أن العقيد معمر القذافي خلال إحدى زياراته إلى المغرب سجل شريطا تلفزيونيا تمنى فيه على قادة الجبهة الذين يعرفهم جيدا، تأسيس حزب سياسي معارض، لكن في إطار الوحدة الوطنية.‬
‫ كثيرة هي الوقائع والحقائق التي عاشها ويعرفها أبناء الصحراء الذين غلبوا خيار الوحدة والسيادة والتماسك على نزعة الانفصال. وإذا لم يكن اليوسفي رأى الوقت ملائما للكشف عن بعضها، فلا أقل من أن ينير هؤلاء الأوفياء طريق الأجيال الجديدة من المغاربة، حول الأسباب التي أدت إلى اندلاع خلافات وصراعات لا يزال أثرها يرخي بظلاله على الحاضر. ومن أجل المستقبل يتعين الالتفات بين الفينة والأخرى إلى محطات الماضي، خصوصا المشرقة، يوم لم يكن واردا أن يفكر أي مغربي في أي منطقة أو جهة، أنه إنسان آخر بلا هوية مغربية.‬
‫ ولئن كان من مثل صادق وقوي وراسخ بهذا التوجه، فهو أن العديد ممن كانوا قياديين في الجبهة الانفصالية أدركهم الوعي بالمسؤولية التاريخية في وقته المناسب. ولا أتحدث عن غيرهم ممن لم تعترف حتى لجنة تحديد الهوية بأنهم ينتسبون إلى الهوية الصحراوية، غير المنفصلة عن الكينونة المغربية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى