شوف تشوف

الرأي

اليد الإنسانية

بقلم: خالص جلبي

اعتبر الفيلسوف، إيمانويل كانط، اليد بمثابة الدماغ الخارجي للإنسان. وعندما درس ابن خلدون ظاهرة الحضارة وجد أن قفزتها تحققت بأداتين (الفكر) و(اليد)، فالفكر هو الحقل النظري، واليد هي أداة تنفيذ بناء الحضارة؛ فاليد هي التي أعطت الإنسان اسمه حقا كإنسان.

الأداة المعجزة
اليد تستطيع أن تمسك وترفع وتومئ، تتحدث وتحس، تبارك وتلعن، ترمز وتشفي. تنجز الأعمال الفنية، وتدمر بسرعة البرق. تعزف الأنغام الرائعة، وتنتج الرسوم البديعة، وتقرأ بدل العينين (برايل للعميان). إنها ناعمة لأقصى الحدود وفي غاية الوحشية، تضغط يد الحبيبة، وتطلق زناد المسدس على طرفي نقيض. إنها حنونة تواسي وهي مدمرة. تنجز أعظم الاختراعات وأدق الأعمال وأحقر التصرفات، ومنذ أن استخدم الإنسان يده بحرية ومشى منتصبا، تحول إلى كائن مبدع، فاليد ليست للإمساك والقبض فقط فهي ميزة يشترك فيها مع القرود، ولكنه وباليد الجديدة المبدعة بنى الحضارة، واخترع الكتابة، وطور الآلة، واكتشف المجرات، وهبط إلى قاع العالم السفلي؛ فاقتحم سكون الكائنات المسبحة لخالقها، ليحدق بنهم في وجه العضويات المجهرية، المندهشة من ضجيج كائن علوي مشاغب، لا حدود لفضوله وشغفه بالمعرفة، يعكر عليها هدوءها وتسبيحها الخفي.
إنها معجزة بحق هذه الأداة وهي (الحاسة) الإضافية؛ فمنذ أن قطعت اليد العجلة الأولى الدائرية من الخشب، دفعت العالم كله إلى الدوران ولم يزل بدون توقف حتى هذه اللحظة، واكتشفت من خلالها دورات الوجود، بدءا من دورة المجرات، وانتهاء بدورة الإلكترون حول البروتون في الذرة. ومنذ أن أنتجت النار باحتكاك الخشب الجاف، تغيرت طبيعة الحياة البشرية، وتحولت الأرض إلى كتلة مضاءة بالنور ونيران المدافع معا.
إن اليد معجزة بحق، تأمل الأصابع عندما تُجرح وتُغلف بالضماد الجراحي كم يصمد على الوسخ؟ إن اليد تغير ضماداتها من خلال استبدال طبقات الجلد الخارجية بدون توقف على مدار الساعة. إنها تتكلم بالإشارات؛ ومنها تطورت لغة الصم بالإشارة، ولغة (برايل) للعميان، بل وما عرف أخيرا بلغة الجسم؛ فقدرة اليد في الترميز بدون حدود، بدون صوت يسمع، أو ضجة تقلق. إنها تبارك وتهدئ وتشفي، فقد لوحظ منذ فترة الأثر الشافي للمس اليد، وهو ما يقرب إلينا آلية فهم الدعاء ومسح الجسم بذلك.
إن اليد (أداة) مدهشة للقبض والإمساك، والمقابلة والتدوير والثني والبسط، بحركات ميكانيكية معقدة للغاية، ولكنها تقفز فوق أن تكون مجرد أداة، إلى أن تصبح (عضو حس) بالكامل لا تقل أبدا عن البصر والسمع والذوق والشم.
لقد أدرك الفيلسوف (إيمانويل كانط) اليد قبل مائتي عام فوصفها: «بأنها حولت الإنسان إلى كائن حاذق متميز للتصرف تجاه الأشياء، فأصبحت اليد بذلك في الواقع دماغا خارجيا للإنسان»، وقصة هيلين كيلر تعطي فكرة عن معنى تحول اليد إلى دماغ خارجي، على ما وصف الفيلسوف كانط؛ فبعد أن فقدت (هيلين كيلر) وهي في السنة الثانية من العمر السمع والبصر والنطق، فأصبحت من عالم «صمٌ بكمٌ عميٌ»، تحولت باليد والقلب فدخلت عالم الشهادة والحياة مرة أخرى، فأصبحت اليد لها بمثابة السمع والبصر، بل وكسرت مسلمة قديمة، نتداولها بدون إبصار ووعي واضح لها، بربط السمع بالنطق، فنطقت بدون أن تسمع وتعي الكلمات، وتكتب وهي التي لم تعرف الحرف من قبل، شاهدا لعظمة خلق الله فينا، بمنحنا هذه المعجزة التي نستعملها في اللحظة الواحدة؛ يدنا التي بها نتحرك في حركة غلق وفتح لا تتوقف بمعدل 25 مليون مرة في متوسط سنوات الحياة «ربنا ما خلقت هذا باطلا».

فهم اليد من الناحية التشريحية
إن اليد التي تمتلك خمسة أصابع يتميز فيها الإبهام بتفرد خاص لا تتشابه معه بقية المخلوقات، بما فيها القردة البارعة بالقفز والشد والإمساك؛ فقرد (البابون) كثير الانتشار في منطقة عسير بجزيرة العرب يتمتع برشاقة لا تضاهى في الإمساك والتسلق و(التخريب)، ولم يكن عبثا أن يقال للولد كثير النشاط و(المخرب) إنه مثل القرد، فعندما اقتحمت مجموعة منهم منزلنا في مدينة (النماص) في دقائق قليلة من غيابنا، تحول البيت إلى أنقاض، وفي لحظات تسلقوا الجدران مثل (القرود) بكل رشاقة ليلتحقوا بكهوفهم في الجبال، ما لفت نظرنا في رشاقتهم بشكل خاص يدهم الرائعة في القبض والتسلق و(التخريب). مع هذا تبقى (راحة) يد الإنسان لا تقارن بقبضة القرد، فمع كل اقتراب القرد منا في بنائه الكروموسومي، بحيث إن الجينات بيننا وبينه تشترك في حوالي 99 في المائة من تشكيلاتها، إلا أن هذه الإضافة البسيطة خلقت الإنسان من نوع مختلف وخلق متباين، فتبارك الله أحسن الخالقين، ففي الـ1 في المائة تراكم (كم) الخلق فحدث انعطاف في تشكيل (النوع) وهو قانون عجيب في الطبيعة؛ فالماء يبقى كما هو حتى الدرجة (99.99) فلا يغير طبيعته، ولكنه عند الدرجة 100 وعندها فقط يحدث انقلاب كامل في طبيعته، فينقلب من ماء سائل إلى بخار سابح في الملكوت، وعندما بُني كيان الإنسان على هذه الكيفية، فقد طار فوق كل الكائنات ليصبح من نوعية مختلفة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى