الولايات المتحدة ونزيف الشرق الأوسط
شفيق ناظم الغبرا
تفتقد الولايات المتحدة في هذه اللحظة للحكمة في القيادة، وذلك في ظل تراجع وضع الدولة الكبرى، منذ مجيء الرئيس ترامب العام 2016. سيرى كل متابع بأن سياسة الرئيس أوباما كانت الأكثر واقعية لدولة كبرى، عانت ما عانت من جراء التورط في مشاريع عسكرية، منذ العام 2002 في منطقة الشرق الأوسط. إن إعلان الولايات المتحدة عن الانسحاب المفاجئ من سوريا لوحده غيّر الكثير من المعادلات، وذلك لأن قرار الانسحاب أفاد إيران أكبر فائدة وقوى دور حزب الله وروسيا وتركيا. لقد أصبحت هذه الأطراف في موقف متميز في سوريا، وذلك بفضل الانسحاب الأمريكي الذي أقره الرئيس ترامب من دون أدنى استشارة للأجهزة المعنية، بما فيها وزارة الدفاع الأمريكي.
وكما تتناقض إعلانات الرئيس ترامب تنهار إعلانات وزير خارجيته بومبيو. فقد بدا ركيكا، ضعيفا، بل وفاقدا للدبلوماسية وبعيدا كل البعد عن الواقع في محاضرته في الجامعة الأمريكية بالقاهرة في العاشر من يناير 2019. لم يترك خطاب وزير الخارجية الأمريكي أي تأثير، فتلك الكلمة كانت الأضعف لوزير خارجية أمريكي، لأنه قدم خطابا عدائيا للعرب بالقاهرة، مؤكدا على قيمة نقل سفارة بلاده للقدس وتحالفه مع إسرائيل، ومؤكدا في الوقت نفسه على مواجهة إيران (في وقت ينسحب من سوريا)، فيما يقدم نفسه كصديق لبعض الأنظمة العربية من دون أدنى التفات لحقوق إنسان أو حقوق مجتمعات.
ويقودنا هذا للسؤال التالي: كيف تنجح الولايات المتحدة في مواجهة إيران، فيما هي فشلت في منع تطور أزمة الخليج التي اشتعلت في يونيو 2017؟ لقد فشلت الولايات المتحدة في بلورة حل موضوعي لحصار قطر، بل فشلت الولايات المتحدة في منع دولة قطر من بناء قاعدة عسكرية تركية تؤمن لها الحماية. إن الرغبة في تنسيق عسكري تركي يشمل الكويت أيضا انعكاس لاهتزاز الثقة بالولايات المتحدة ولاهتزاز الثقة الإقليمية ضمن مجلس التعاون الخليجي، منذ مجيء ترامب إلى الرئاسة. في هذا كله يستمر نزيف الدولة الكبرى في أكثر من مجال.
بل أعلن بومبيو في خطاب القاهرة عن نيته في بناء تحالف عربي قائلا: ستقوم إدارة ترامب بتأسيس التحالف الاستراتيجي للشرق الأوسط لمواجهة التهديدات الأكثر خطورة في المنطقة وتعزيز التعاون في مجالات الاقتصاد والطاقة، ويجمع هذا الجهد بين أعضاء مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن.
والسؤال الأكبر: كيف يمكن للولايات المتحدة أن تفشل في العالم وتتوقع أن تنجح في بناء تحالف في الشرق الأوسط؟ وهذا يثير التالي: فالولايات المتحدة لا تريد إراقة دماء أمريكية على أرض عربية، وهي ليست تواقة لحروب جديدة وخسائر، لكنها لا تمانع في حروب بواسطة وكلاء. فعلى من ستعتمد في التحالف العربي؟ ألم تفشل فكرة التحالف العربي في كل من اليمن وسوريا؟
في الوقت نفسه إن طرح الولايات المتحدة لإمكانية الانسحاب من الناتو أو تقويضه وإضعافه يمثل سابقة ستؤثر على مكانة الولايات المتحدة الكونية. تصريحات عدة تم تسريبها ونسبها للرئيس، أكدت نيته الانسحاب من الناتو. بغض النظر عن وقوع أو عدم وقوع الانسحاب، هناك عمليا ضعف أمريكي واهتزاز بالسياسة ينعكس على أوربا، وهذا يعني تقوية مباشرة للحلم الروسي بإضعاف الناتو. كل الذي يريده الرئيس الروسي بوتين منذ سقوط الاتحاد السوفياتي إيقاف توسعة الناتو، من خلال تخلي الولايات المتحدة عنه.
لقد اهتزت المكانة الدولية للولايات المتحدة، لكن الأهم أن عددا من الدول العربية بدأت تشعر بالخوف من المراهنة الكاملة على الولايات المتحدة. ولو قامت حرب شملت عدة دول عربية سيكون موقف الولايات المتحدة مختلفا عن كل ما وقع في تاريخها، بعد الحرب العالمية الثانية. بل لو عدنا لتصريحات ترامب الأخيرة سنجد أن ثمن التحرك الأمريكي سيكون أكبر من أي ثمن، وقد يتضمن رهن السيادات الوطنية والمالية للدول التي تقع فيها الأزمات. لقد اهتز الرهان التاريخي على الولايات المتحدة في هذه المرحلة.
إن هروب بعض العرب نحو إمكانية الاعتماد على إسرائيل (وبتشجيع من البيت الأبيض) في وقت تعاني إسرائيل من تفكك ذاتي ومن صراع مع الكثير من يهود العالم بفضل تحالفها مع ترامب، بل وفي وقت لا يوجد حل واضح للصراع العربي -الإسرائيلي والفلسطيني- الإسرائيلي يحمل في طياته لحظة حقيقة أخرى. من جهة ثانية إن الدعوة للمواجهة مع إيران لا تأخذ بعين الاعتبار أن النظام العربي المراد التحالف معه هو الآخر مفكك، ويعاني من الأزمات الذاتية كان آخرها أزمة الخليج وحصار قطر. فحتى القاهرة أهم دولة عربية من حيث الحجم والثقل والعدد تعاني من حالة أصعب من تلك التي كانت سائدة قبل ثورة 25 يناير 2011، وهذا يعني أن بعض الحلفاء العرب معرضون للاهتزاز السياسي.
ما نجحت الولايات المتحدة بعمله في زمن جورج بوش الابن، عندما أسقطت النظام العراقي، لن تستطيع عمله في إيران، فالمعطيات تغيرت، كما أن النظام العربي للعام 2003 لم يعد نفس النظام الموجود اليوم بعد ثورات العام 2011 والثورة المضادة. كل الذي تستطيع إدارة ترامب عمله، هو إدامة التوترات في الشرق الأوسط وخلق الأرضية لحروب لن ترسل إليها جنودها، بل كما تفكر سترسل جنود التحالف الشرق أوسطي العربي المفكك. لحظة الحقيقة في السياسة الخارجية الأمريكية تزداد اقترابا، مع استمرار اهتزاز الأرض تحت قدمي الرئيس ترامب.