الوكيل العام للمملكة يطالب بحقوق التأليف
يسير بطول الغرفة، يتدفق على لسانه كلام خبير ضالع، غير مرتب. ويسألني الوكيل العام للمملكة لدى المجلس الأعلى أحمد مجيد بن جلون، إن كنت أسجل كل كلماته، ثم يواصل والسيجارة لا تغادر شفتيه. تذكرت في مكتبه الذي انتقلت بنايته إلى معهد الثقافة الأمازيغية، واقعة بطلها الزميل عبد السلام البوسرغيني.
كان مجيد بن جلون وزيرا للأنباء، وكان البوسرغيني يكتب تعليقات سياسية، حين يفرغ من ترجمة القصاصات التي يعكف عليها بنهم محترف. ودأب على أن يبدأ مقالاته بالمطلع التقليدي: يقول المراقبون، أو يرى الملاحظون، أو يستخلص المحللون. سأله الوزير عمن يكون هؤلاء المراقبون الذين يستشهد بهم، فأجاب الصحفي بكل عفوية: إنهم أنتم يا سيادة الوزير. وصادف أن الوكيل العام استظهر الجملة ذاتها: يقول المراقبون، حين كان بصدد إملاء تصريحه واقفا، لا يمل من الذهاب والإياب في نفس القاعة.
كان رئيس تجمع الأحرار، أحمد عصمان، طلب إلي إجراء مقابلة مع مجيد بن جلون، يتحدث فيها عن الوقائع التي عرفتها المواجهات المغربية- الجزائرية، أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي، لدى عرض الأمم المتحدة اقتراحا بأن تنظر الهيئة القضائية الدولية في النزاع القائم بين المغرب وإسبانيا حول السيادة على الصحراء. فقد ترافع وقتذاك إلى جانب نقيب المحامين المعطي بوعبيد، واستشارة العميد محمد بنونة، وفندوا مزاعم الخصم الجزائري محمد البجاوي، وانتزعوا من المحكمة قرارا صريحا يفيد بأن أرض الصحراء لم تكن خالية عند احتلالها من طرف الإسبان، وأن روابط البيعة والولاء ظلت تجمع سكان الإقليم بالسلطة المركزية في المغرب، وإن أبقى حكمها على المفهوم الملتبس والفضفاض لقضية تقرير المصير. ما شجع المغرب على الاستناد إلى توصية الأمم المتحدة رقم 1415 التي تنتصر لوحدة وسيادة الدول، على حساب تقرير المصير، في حال أريد به تمزيق كيانات الدول القائمة.
يعتبر مجيد بن جلون خبيرا قانونيا وموسوعة في الفقه الدستوري، لذلك ارتبطت استشارته بأكثر القضايا حيوية في هذا المجال على الصعيد النظري. وكان من الأوائل الذين كتبوا عن التجربة الدستورية منذ نشأتها، ويعتد بكتابه حول مبادئ وأحكام الدستور، لرصد مسار التطور السياسي في البلاد، وإن كانت مواقفه تميل دائما إلى ترجيح الطروحات الرسمية التي لم يكن بعيدا عنها فكرا، أو ممارسة.
هل يوجد رابط بين توليه مسؤولية وزارة الأنباء وفرض حالة الاستثناء؟ فالمعركة بين المعارضة والنظام كان لها شق إعلامي يطفو على سطح المواجهات التي استخدمت فيها شتى الوسائل، وفي مقدمتها تشديد الرقابة والخناق على صحافة المعارضة. وجاء اختيار مجيد بن جلون بخلفية قضائية، لأنه كان قابلا لتبرير أي سلوك، يدثره بعباءة قانونية، وقد لا يعرف كثيرون أنه كان وراء إحداث شرطة مختصة بتجاوز الحدود الترابية للمدن والأقاليم. حدثني ضابط أمن كبير عاش فترات الاحتقان أن الجنرال محمد أوفقير، وزير الداخلية، كان مهتما بفكرة المحاكمات الجماعية للمعارضين، للدلالة على ما يراه «طابعا تآمريا». ولأنه لم يكن يعير القانون أدنى احترام فقد أمر بتجميع متهمين بالإطاحة بالنظام، وفق الرواية الرسمية، جيء بهم من أقاليم ومدن مختلفة.
واجهه أحد المستشارين القانونيين في تلك الفترة بأن ذلك غير ممكن، لأن قرينة الأمكنة والأفعال جوهرية. فطلب استشارة أحمد مجيد بن جلون الذي يُعتقد أنه أوعز له بإحداث شرطة ذات صلاحيات تشمل كافة أرجاء البلاد، وقد يكون لتلك الاستشارة أثرها في اختياره لمنصب وزاري كمسؤول عن قطاع الإعلام. ثم عاد ليشغل المهمة نفسها في السادس من غشت 1971، بموازاة والأحداث التي كانت البلاد مسرحا لها والمحاكمات التي طالت عسكريين تورطوا في التآمر على النظام، بعد أن قضى فترة كوزير للوظيفة العمومية.
اقتضت مرحلة الإعداد للمواجهة الأخيرة بين الرباط ومدريد في قضية الصحراء تعيين دبلوماسي نشط في قطاع الأنباء، لم يكن سوى وزير الخارجية، أحمد الطيبي بن هيمة. ما حدا بالتحاق أحمد مجيد بن جلون بالديوان الملكي مستشارا قانونيا. فقد سبق له أن أعد مشروعا متكاملا لإصلاح مؤسسة جامعة الدول العربية، وعرف بأبحاث غنية في العلاقات الدولية، غير أنه في تدبيره للملفات التي اضطلع بها كوزير لم يكن مهتما بغير الاستماع إلى صوته، وكان أحيانا يبدو لا مباليا وعبثيا حتى.
تلك سلوكات يعرفها الذين عملوا إلى جانبه، إلا أنه على المستوى الفكري والإبداع القانوني كان ذا قدرة عالية. وفي حالات خاصة يروق له أن يردد أن القانون الذي لا يطرب لا معنى له، ويقصد بذلك آلة القانون التي يعزف عليها الموسيقيون. فقد كانت تستهويه الجلسات والسهرات التي يحضر فيها كبار الفنانين العرب والمغاربة، حتى أنه أغلق باب مكتبه وراح يتابع سهرات سيدة الطرب، أم كلثوم، عندما حلت بالمغرب. فقد كان يحتل الصف الأمامي رفقة الأهل والأصدقاء.
عندما أنهيت المقابلة التي أجريتها معه، سألني متى ستنشر، وقبل أن أغلق باب مكتبه ذكرني مازحا بأن لديه حقوق تأليف ينتظر من أحمد عصمان أن يدفع أتعابها. فهل خطر بباله أن نجلته ستتهرب من المثول أمام القضاء، بعد أن دهست شرطيا في واضحة النهار؟