الوجه الآخر للقياد الذين واجهوا فرنسا بين جبال الأطلس
يقول مستكشف إنجليزي إنه التقى عسكريا فرنسيا وحكى له كيف أنه رأى بعينيه قائدا سوسيا يستل سيفه ويقطع بها قدم أحد معاونيه لأنه تراجع في إحدى المعارك، واستسلم في عز اشتباك مع القوات الفرنسية التي كانت على مشارف تلك القبيلة. يقول هذا المستكشف: «قلت له إنني سمعت الكثير عن القياد في سوس، فقال لي والخوف يتطاير من عينيه: يا صديقي.. إنهم إما أن يكونوا أصدقاءك ويتحالفون معك، أو ينصبوك عدوا لهم، وصدقني، لن يموتوا إلا بعد أن تموت أنت..». فهل بالغ هذا الفرنسي في الوصف؟ ربما لم ينقل إلا نصف الحقيقة.
أجانب غامروا بحياتهم لاستكشاف أبعد نقط المغرب
لماذا يتحمل الفرنسي مشاق الترحال على الدواب، إلى أماكن لم ير سكانها في حياتهم سيارة ولا سكة قطار؟ لماذا يغامر بحياته، وهو يعلم جيدا أن النهاية قد تكون وشيكة في أي طريق جانبية تصل بين المداشر التي تشكل خط دفاع قوي ضد التوغل الفرنسي في المغرب بعد توقيع معاهدة الحماية؟
الجيل الأول للمستكشفين الأجانب للمغرب، كانوا قد بدأوا في تدوين رحلاتهم قبل حتى أن تدخل سنة 1900 على العالم. وبعد اثنتي عشرة سنة بالضبط، أصبح المغرب تحت الحماية الفرنسية، وهو ما جعل أمر تدبر التوسع داخل المغرب بقوة أمرا حتميا.
ما توفر لفرنسا من معطيات جغرافية وقتها، كان يتوقف عند مشارف مراكش بالضبط. وكل ما توفر لديها عن المناطق التي تشكل الأطلس، لا يعدو أن يكون روايات شفهية، وصلت إلى مسامع مواطنيها ممن كانوا يرغبون في زيارة تلك الأماكن دون أن يتمكنوا من تحقيق الرغبة.
في سنة 1909 بالضبط، كتب أحد الصحفيين أنه لم يسبق لأي أوروبي أن زار تخوم الجنوب المغربي ومنطقة سوس. وقد اعتبره الكثيرون مخطئا، لكنه أكد في مقالات نشرت في نفس الوقت أنه لم يسبق أبدا لأي أوربي أن وضع قدمه في عمق منطقة سوس.
لكن سنة 1912، والتي جعلت المغرب يوقع على معاهدة الحماية الفرنسية، بعد أن هدأت الثورات الداخلية في ما كان يعرف وقتها بـ«السيبة» أي الانفلات الأمني، جعلت فرنسا تفكر جديا في التوغل في الجنوب بكل قوة وتكتشف مغربا آخر غير الذي وجدته في الشمال وصولا إلى مراكش.
هنا، بدأت أولى العمليات العسكرية التي كلفت فرنسا الكثير من صفوف جنودها، واستعانت بقوات إضافية حتى تصل إلى السهول التي تحيط بسلسلة الأطلس. لكنها لم تفلح في اختراق الجبال إلا بعد سنوات من المواجهات.
القياد والباشوات، لم يكونوا قد تعرفوا بعد على كبار الضباط الفرنسيين حتى يطبعوا معهم العلاقات كما هو شأن قياد آخرين في المناطق التي وصلت إليها فرنسا مبكرا.
كيف ستهتدي فرنسا إلى كل هذا؟ الجواب يكمن في كتابات المستكشفين الفرنسيين الذين زاروا الجنوب المغربي بعد سنة 1912. وقد بدا واضحا أن زياراتهم لم تكن بريئة. «بول شاتينيير» واحد من هؤلاء الذين زاروا منطقة سوس فترة قصيرة بعد السيطرة على الانفلات الأمني الذي عرفته المنطقة بسهولها وجبالها، وكان له أن يدون كتاباته في مجلد كبير يتحدث فيه عن تجربة سفره وجولاته في الجنوب. لكن ما يهم هو الشق المتعلق بمنطقة سوس تحديدا، حيث قدم هذا العسكري أوصافا دقيقة للمسالك الطرقية وحتى طبائع الناس. لكن ما يهم أكثر من خلال هذه التجربة المتفردة التي تجاوز عمرها 100 عام، حيث دونت سنة 1914، قبل أن تصل القوات الفرنسية إلى الجبال وتصبح معطيات الكتاب معروفة لدى أصغر عسكري فرنسي.
لن تكون الحالة متفردة، فما كُتب عن سوس يتجاوز تجربة واحدة.. لكن قوة تجربة تعود إلى سنة 1914 ليس هو تاريخ كتابتها، وإنما جرأة صاحبها في زيارة مناطق كانت بعيدة عن سيطرة فرنسا، وبالكاد تسمع عنها النزر القليل. قيادها كانوا خارج حسابات العسكر الفرنسي، بينما أصدقاؤهم، القياد الآخرون ممن سكنوا قرب السفوح بعيدا عن المرتفعات، كانوا قد ربطوا علاقات جيدة مع فرنسا.
هذه الكتابات، وغيرها مما تفرق أو اجتمع، تعطي صورة غير تلك التي ظنتها فرنسا في بداية دخولها إلى المغرب، حيث اعترف جنودها، أن أصعب المناطق اختراقا، تلك التي كان يسيطر عليها القياد السوسيون وسط الجبال. اعتبروا قبائل متمردة عن الإدارة الفرنسية، لكنهم شكلوا حزاما بشريا داخل جغرافيا وعرة، لازال أحفادهم عالقون بين نتوءاتها إلى اليوم.
قرى لا تزال على حالها بعد 101 سنة على أول اكتشاف فرنسي لها
رغم أنها وصلت إلى ورزازات قبل دخول سنة 1920، فإن فرنسا تبقى متأخرة في الدخول إلى الجنوب المغربي للمرة الأولى في تاريخها.
يطعن الكثير من الباحثين في تاريخ الجنوب المغربي في روايات كثيرة روجتها فرنسا بخصوص تواريخ توغلها في بعض المناطق، ويرى أجانب أيضا أنها بالغت في اعتبار قواتها توغلت في الجنوب بسهولة.
قبل أن يحل العساكر الفرنسيون في الجنوب، فإن فرنسيين مدنيين جربوا دخوله ومعايشة أهله والتقرب من قبائله بهدف الخروج بفكرة عن طبيعة الحياة في الجنوب. بعضهم لقي مصرعه، وهو ما حاولت فرنسا أن تتخذه ذريعة لهجومات عسكرية، بينما تكتمت عن قصص مقتل آخرين مخافة أن تتضرر صورتها أمام أعدائها.
تبقى رحلة الدكتور بول شاتينيير واحدة من أغرب الرحلات إلى منطقة سوس، أيام كانت المواجهات ضارية بين الجيش الفرنسي والقبائل التي تقتسم السيادة في المنطقة.
لكن «شاتينيير» استطاع أن يدخل سالما ويخرج سالما، وفي جيبه أوراق يروي فيها تفاصيل رحلته محطة بمحطة. خرج من الرحلة بتجربة غنية ضمنها كتابه في الأطلس المغربي الكبير، وقد تولى الباحث نور الدين صادق، ترجمة الشق المتعلق بزيارته إلى منطقة سوس، إلى اللغة العربية.
من المناطق التي وصل إليها هذا المغامر الفرنسي، قرى صغيرة، لا تزال على حالها إلى اليوم، حتى بعد مضي 101 سنة كاملة على تاريخ الرحلة، وربما ساءت أوضاعها أكثر، جراء توالي سنوات الجفاف، والكوارث الطبيعية المتمثلة في الزلازل. قرى نواحي «تسنت» و«أكركور» ومناطق نفوذ عدد من القياد الأقوياء وقتها كالقائد عمر السكتاني، الذي خصص استقبالات احتفالية لعدد من الفرنسيين منذ السنوات الأولى للحماية، حتى قبل أن تصل القوات العسكرية إلى سوس، وحظي بذلك بدعم فرنسا حتى بعد دخولها العسكري. هناك، كانت قرى كثيرة تابعة لنفوذه في السلطة، ولا تزال إلى اليوم على حالها، صغيرة ومنسية في عمق الجبال.
من حسنات رحلة شاتينيير، أنها رسمت معالم توزيع القرى بسوس، وكان من شأن رحلته أن تساعد المغرب، خصوصا خلال السنوات الأولى لحصوله على الاستقلال، لكي يؤهل تلك المناطق، ويدمجها ترابيا، لكن التهميش ظل العنوان الكبير، لمناطق كانت تشكل أيام الحماية، مقابر حقيقية للجنود الفرنسيين، وتجارب تستحق أن تُروى لأمثال بول شاتينيير.
رجال سلطة حديديون لانوا في التعامل مع المستكشفين
أيام «السيبة» كان المغرب أقرب إلى التفتت. ولولا الجهود التي بذلها المخزن لتأديب بعض القبائل التي تمردت على بعضها، وأصبحت هناك معسكرات تدين بالولاء للسلطة وأخرى تدين بالولاء لقبائل أقوى، فإن المغرب كان ليشهد حربا أهلية طويلة.
كل هذا انتهى قبل حتى أن تفرض الحماية على المغرب. ومع دخول المغرب ما بعد سنة 1912، أصبحت السيبة في خبر كان، باستثناء بعض التمرادت التي كانت تقع بين الفينة والأخرى، وتحتويها السلطة، قبل أن ينشغل الجميع بالانخراط في مقاومة التوغل الفرنسي.
بعض الأعيان، فطنوا بذكاء إلى أن فرنسا تحسن بسط نفوذها على المغرب، فوضعوا أيديهم في أيدي الممثلين العسكريين للسلطات الفرنسية، وأصبحوا يتقربون منهم أكثر مما كانوا يحرصون على التقرب من ممثل المخزن في منطقتهم. أما القُياد، ومنهم بعض الذين وجهت لهم تهمة الخيانة بعد الاستقلال، فقد طبّعوا علاقاتهم مع الممثلين العسكريين في مناطقهم، دون الرجوع إلى السلطة التي يمثلونها في منطقتهم، وهكذا أصبح أغلبهم في حكم المنفصلين عن الدولة لينشئوا دويلاتهم ويرسموا، بعناية، حدود نفوذهم، على حساب نفوذ قياد آخرين. وستصبح علاقاتهم بفرنسا وطيدة، وبالطبع، ستتوفر لهم امتيازات لم تتوفر لغيرهم.
هؤلاء، لم ينعطفوا بالصدفة، وإنما كانت البداية منذ أولى الاستكشافات التي قادتها فرنسا للجنوب المغربي مع أمثال «بول شاتينيير». حيث لاحظ عدد من المستكشفين أن رموز السلطة يتساهلون في التعامل مع الفرنسيين والأجانب عموما ويحرصون على ربط الصداقات معهم، في مقابل نفورهم من ممثلي السلطة التقليدية التي احتوتهم جميعا بعد انتهاء زمن السيبة، ودخول البلاد في منعطف آخر طبعته الحماية الفرنسية.
هنا يقدم «بول» وصفا لأحد القياد السوسيين وقد بالغ في إكرام وفادته. يقول: «كان الفرسان المرافقون له كثيري العدد، جيدي التجهيز، ينطلقون بخيولهم ويملؤون الجو بوابل من طلقات بنادقهم مرحبين بمقدمنا. وحول القائد كان حشد متموج من المشاة المسلحين يهرول مشكلا حرس شرف يتقدمنا حتى مدخل القصبة..».
لم يكن هذا إسرافا في استعراض السلطة. فالقياد، خصوصا في الجنوب، كانوا يتوفرون على صلاحيات تجعل الوافدين يعتقدون أنهم أمام زعماء دول أو منشقين عن السلطة الكبرى بالبلاد، لما يجمعونه من ولاء لقبائل كثيرة لهم. وهو ما كان يقوي نفوذهم.
بعيدا عن بول شاتينيير، فإن أحد الإنجليز، واسمه «بول جي. سيتوارت» انتبه لهذا الأمر مبكرا، رغم أنه لم يفلح في التوغل في المغرب، إلا أنه يقول في مذكراته إنه كان محظوظا ببقاء عدد من الأعيان في الدار البيضاء، واجتمع بهم في دار ضيافة أحد أصدقائه البيضاويين خلال سنة 1930، وكتب له أن يلتقي في منزله بعدد من الزعماء السوسيين الذين شجعوه على زيارتهم.. نصحه صديقه بتلبية الزيارة، وقال له إن دعوة الأمازيغ لا تُرد، وليس من الصواب أن تُوجه له دعوة مماثلة ولا يجيبها. كتب بهذا الخصوص ما يلي: «كانت هناك ذبابة بغيضة تحط على أنف زعيم سوسي وتزعجه. قال لي مضيفي إنه برتبة قايد، وأنه ورث المنصب أبا عن جد. وأن إشارة واحدة من يده، كافية لشن حرب ضروس ضد أي عصيان أو تمرد في القرى التي تشكل منطقة واسعة لنفوذه بنواحي مراكش. لم أصدق هذا الأمر، واعتقدت أنها ادعاءات فقط لتضخيم صورة هؤلاء الزعماء في أعين الأجانب، لكني سألتقي صديقا فرنسيا، برتبة كولونيل، وحكى لي كيف أنه رأى بعينيه قائدا سوسيا يستل سيفه ويقطع بها قدم أحد معاونيه لأنه تراجع في إحدى المعارك، واستسلم في عز اشتباك مع القوات الفرنسية التي كانت على مشارف تلك القبيلة. قلت له إنني سمعت الكثير عن القياد في سوس، فقال لي والخوف يتطاير من عينيه: يا صديقي.. إنهم إما أن يكونوا أصدقاءك ويتحالفون معك، أو ينصبوك عدوا لهم، وصدقني، لن يموتوا إلا بعد أن تموت أنت.
يومها تذكرت أولئك القياد الذين تناولت معهم الغذاء في الدار البيضاء، وبلعت ريقي لسببين. الأول لأني محظوظ لأنني لم أتمكن من تلبية الدعوة، والثاني لأنهم لم يقتلوني في ذلك اليوم..». رغم هذه الصورة التي كونها الأجانب عن القياد في الجنوب، الذي كان بول شتنيير محظوظا بأن يكون من أوائل الفرنسيين الذين استكشفوا جنباته، فإن أغلبهم كانوا موالين لفرنسا، وربما لم تكن لتتوغل يوما في منطقة سوس، لولا الولاءات التي كونتها القوات الفرنسية بفضل صداقاتها مع عدد من القياد الذين تحولوا بين عشية وضحاها إلى عيش نمط حياة فرنسي، دون أن يفرطوا في الزعامات التي لم تُسحب منهم إلا بعد أن أصبحت مقاومة الوجود الفرنسي بالمغرب كبرى الأولويات، وينتهي تاريخ هؤلاء القياد بعد سنة 1956، بعد أن رحل أكثرهم عن الحياة بطرق مأساوية، بانتقام الثائرين، بسبب تعاونهم مع فرنسا.
أماكن لم يصل إليها أحد بعدما غادرها فرنسيون
من الأماكن التي زارها بول شاتنيير، قرى صغيرة ومداشر، لا توجد أي إشارات تاريخية لدى مستكشفين آخرين، تدل على أنهم وصلوا إليها قبله. وهكذا يصبح شاتينيير، مرشحا فوق العادة ليصبح ربما أول أجنبي يضع قدمه في بعض المناطق من عمق الجنوب المغربي.
رغم قصر المدة التي استغرقتها الرحلة في عمق الأطلس، فإنها لم تتجاوز أسابيع قليلة، من 8 يونيو إلى 19 يوليوز. هل كانت هذه المدة كافية لمستكشف حتى يرى حقيقة المنطقة؟
بالعودة إلى تجارب أخرى، فإن المدة التي قضاها هذا المغامر الفرنسي، تبدو مديدة مقارنة مع الأيام القليلة التي قضاها بعض العلماء والصحفيين في الجنوب المغربي، ليفروا منه مخافة التعرض للتصفية الجسدية على يد الثوار، خصوصا خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي. ما يشفع هنا لـ«بول شاتينيير» أنه جاء في وقت مبكر، سنتين فقط على توقيع معاهدة الحماية، وهو الأمر الذي لم يكن قد بلغ بعد إلى علم عدد من القبائل والقرى الصغيرة التي انقطعت عن أخبار المغرب، ولم تصلها إلا متأخرة.
بزيه العسكري، يبدو «بول شاتينيير»، في صورة التقطت له بعد سنوات على زيارته إلى سوس، خبيرا بالتحركات العسكرية، وأن زيارته سنة 1914 إلى منطقة لم تصلها القوات الفرنسية بعد، كان لها ما بعدها بكل تأكيد.
يقول واصفا إحدى المناطق التي زارها، وربما لم تصل لها مواكب المخزن يوما بسبب بعدها ووعورة المسالك الطرقية المؤدية إليها: «في يوم 11 يونيو، عند مغادرتنا قصبة كندافة، تسلقنا في اتجاه الجنوب، منحدرات جبل «ويشدان» الذي يفصل وادي «ثلاث نيعقوب» عن سوس. وكانت حاشية لا متناهية من الفرسان والبغال المحملة بمعدات التخييم الأهلي تتبعنا. وكان الممر الضيق والعسير الذي كنا نتسلقه وسط غابة من البلوط الأخضر. في التاسعة صباحا، اجتزنا عنق ويشدان المتربع على ارتفاع 2750 متر. كان البرد قارسا. وفجأة وجدنا منظرا بانوراميا جد عريض يمتد تحت أعيننا. تركنا خلفنا الأودية العميقة والقمم المثلجة لكندافة والتي بدأت تبرز بوضوح تحت صفاء ضوء الصباح. وعند أقدامنا، في اتجاه الجنوب، كانت غيمة تحجب عنا «سوس» الذي كنا على أبوابه.
شرعنا في نزول السفح الجنوبي للعنق عبر درج من الحجارة حيث كان على خيولنا أن تبذل مجهودا خارقا لحفظ توازنها. وسرعان ما اختفى الممر داخل غابة جديدة من البلوط الأخضر. وبعد حين انقشعت الغيوم لتكشف لنا وادي «أوناين»، واسعا تتخلله بقع خضراء وأخرى داكنة تعلن تباشير أولى حقول الزيتون وأولى قرى سوس.
يمتد نفوذ باشا مراكش حتى هذه المنطقة، وقد جاء خليفته سي محمد أوتوغز، لاستقبالنا نيابة عنه. كان رجلا محبوبا، مرحا، مسليا، يمزج بمهارة عالية عبارات الترحيب التقليدية بأحاديث طريفة، وبكثير من القصص المسلية، ويحسن تقديم ذلك كله بشكل مستملح. إن ألطف ما يوجد ببلاد سوس كما قال لنا، جاء لاستقبالكم. هناك فتيات «شلحات» صغيرات وفتيان لطفاء. وفعلا كان حشد من النساء الشابات بقمصان مكشوفة ويطلقن صرخات حادة للترحاب، بينما نقترب من قصبة أوناين. كل شيوخ البلد والذين كانوا إلى عهد قريب في حالة سيبة، تجمعوا تحت واحة الزيتون الممتدة ليستمعوا للنصائح الحكيمة التي أتاهم بها الكولونيل دولاموط. كانت رؤية هذه الحشود المجمعة التي تجلس القرفصاء منتبهة لكلام القايد، محاطة بعدد من المخازنية الواقفين، الذين يلتحفون برانيسهم في شموخ، تحيي أمام عيني تلك الحقبة التي كان فيها القادة الغاليّون يجمعون محاربيهم ليناقشوا أمور السلم والحرب في قلب غابتهم المنيعة. وقد كنت أحس أنني أشد بعدا عن التقاليد النظامية لحضارتنا، وأكثر قربا من الإنسان البدائي!
ومن بعد الحكمة، كنت أمنح للأهالي بعض الأدوية التي لقيت أيضا نجاحا كبيرا».
في ما تبقى من روايته لأول انطباع عن رؤيته لملامح سوس، قبل أن يتوغل فيها أكثر، يفصل هذا المستكشف في وصف الطريق نقطة نقطة، والمثير أنه كان يحدد ارتفاع الجبال، في مناطق لم يكن معروفا فيها الارتفاع عن البحر، ولم يسبقه إلى زيارتها أحد.
أمثال هذه الروايات والمشاهدات، كانت مؤنسة للجيش الفرنسي أثناء توغله في أكثر مناطق سوس خطورة.
هكذا تفرجت فرنسا على زعماء سوسيين يقتلون بعضهم من أجلها
يقول بول شاتينيير في أحد المقاطع: «وصلنا في الرابع من يوليوز عند أهل «كسيمة» الذين تحتضن مجالاتهم مصب واد سوس. قدم لنا القائد وجبة غذاء وفيرة. لم نميز منه في البداية سوى وجه أشقر وتافه كوجه الدمية، ومظهر ساذج كطفل مذبح. لكن سحر بساطته، والفرحة التي اعترته وهو يستقبلنا، جعلاه بسرعة يبدو أكثر ودا. كان يحكم بحزم قبيلة من عمل الألمان منذ وقت بعيد على إبعادها من نفوذنا. وقد عرف كيف يبرز فاعليته عندما تمرد فيما بعد، جاره قائد «مسكّينة». فقد هاجمه قائد «كسيمة» الشاب والخجول هذا بسرعة دون أن يترك له وقتا لتنظيم حركة وقتله بيديه. ثم استتبع بعد ذلك مجال مسكّينة. كانت أنقاض القرية شاهدة على المعارك الأخيرة التي قادها القائد الشاب. قدمت لنا وجبة الترحاب في قاعة صغيرة، أفلتت من الحريق. من خلال النوافذ، كنا نلمح في ساحة فسيحة مشمسة راقصين سوسيين شبانا يتململون بتكلف تحت أنغام الطبلات والكمنجات الوحيدة الوتر. كان الأهالي المرافقون لنا يتابعون بعيون متوقدة حركاتهم الماجنة».
لم تكن هذه الملاحظات بريئة. فعين بول شاتينيير لم تكن عادية ليرى العالم من حوله بسيطا. فالرجل، الذي ظهر في الأخير أنه عسكري وليس مدنيا يهوى الترحال بين الجبال ويعرض مجانا حياته للخطر، أشار غير ما مرة إلى الصراعات التي تنشب بين القياد، خصوصا في المناطق المتقاربة. حيث تصارعوا في ما بينهم، خصوصا في زمن «السيبة»، وبقيت آثار الصراعات والحروب والحرائق المفاجئة شاهدة على مرحلة كاملة من التقلبات. لم تنته تلك الممارسات بانتهاء زمن السيبة، بل بدأت أطوار حروب أخرى مع فرنسا، عندما تسببت صداقاتهم مع فرنسا في حروب أهلية، حاولوا السيطرة عليها بمعونة فرنسية، استعمل فيها القياد رجالهم، ولم يشارك فيها الجنود الفرنسيون إلا بالتوجيهات.
أحد القياد، لم يخص وفد بول شاتنيير بالحفاوة التي عهدها عند آخرين قبله وحتى بعده. وبدا أن «بول» لم يستسغ الاستقبال الباهت الذي خصصه له هذا القائد. يقول: «يوم 14 يونيو زرنا أكدال حيث قائد «تلمت». وهو شخص بطين، تعكس بنية جسده السمين شخصية تافهة. كانت القصبة تتربع فوق ربوة وجدنا منحدراتها، عند وصولنا مفروشة برجال ونساء شلوح، في مجموعات متزاحمة، اجتمعوا لتشريفنا.
في يوم 15 يونيو، زيارة أخرى لقائد «إينداوزال» المسن. واستقبال متعجل شيئا ما. كان القائد خلالها يحكم من دون سلطة قسما من الأطلس الصغير. كانت نظراته المتهربة تكشف عن روح مخادعة رخيصة. قبل ثلاث سنوات كان روى لنا الباشا حيدة عند دخوله معنا للقصبة: كنت في حرب مع قائد إنداوزال وقد نجحت في مطاردته، وفي جعله يلوذ بالفرار ونهبت قصبته. فمن هناك أتيت بالأبواب السميكة التي تزين داري، وقد غيرها الماكر بأبواب أخرى أجمل مما ترون. لكني لن أفقد الأمل، أضاف وهو يبتسم، في أخذها أيضا يوما ما».
فقط لأن القائد لم يستقبل وفد «بول» جيدا، كان كافيا أن يثير ضده قصة الباشا الآخر، الذي اشتهر بكثرة المعارك التي خاضها ضد قياد في المنطقة، أيام السيبة وحتى بعدها.
بالنسبة للقياد الذين يجد «بول» لديهم تعاونا مع فرنسا، فإنه يقدم عنهم بورتريهات، أشبه ما تكون بالتقارير السرية، ويثني فيها عليهم، فقط لأنهم يتعاونون مع فرنسا. يقول في وصف أحد القياد المتعاونين: «كان الباشا المسن والذي ظل محافظا على مظهر عسكري صارم وهو يخترق جموع رعاياه، وقد أصبح مبتسما: «مرحبا بكم فأنتم أهل الدار في أملاك المخزن التي استرجعها مؤخرا من الهيبة». ثم جاء باشا تزنيت وكل قياد سوس بدورهم لتحيتنا في إقامتنا الجديدة، وليقتسموا معنا وجبة معبرين لنا عن حفاوة الاستقبال.
كان قائد الطابور يضع شرائطه الأربعة على زيه البرتقالي المطرز كله بالذهب والفضة، والذي كان شكله الباذخ يتناقض تماما مع منظر ساقي الرجل العاريتين والمشعرتين. لم يكن لمجاملاتهم من نضوب، بعضهم يقدمون طلبات وآخرون يعرضون شكاوي. طيلة الأمسية، وكما جرت عليه العادة أثناء الاحتفالات الكبرى، استمر الخيالة في لعبة البارود وسط فناء فسيح..».
لهذا السبب أنشؤوا المستشفيات ووزعوا الدواء على الفقراء
كيف انتهى، «بول شاتينيير»؟ هو وغيره من الذين كانوا يشكلون نخبة الفرنسيين الذين سبقوا إلى استكشاف المغرب في ما يشبه مسحا جغرافيا كبيرا بدأه إدمون دوتي، وآخرون في وقت مبكر. لكن «بول» كان من أوائل الذين اقتحموا منطقة الخطر وخالطوا السوسيين ليكون فكرة سريعة في أقل من شهر، عن الحياة في جبال الأطلس، تمهيدا للدخول التام لفرنسا إلى هناك.
تحول بول شاتينيير إلى أدوار أخرى تمثلت في إشرافه على تشييد مستشفى، وتقديم الأدوية لسكان القبائل الذين أنهكتهم الحياة في مناطق معزولة إلى اليوم، لكنه لم ينسلخ أبدا عن دوره كعسكري فرنسي، حاول جاهدا ألا يثيرها أثناء كتابة مشاهداته، لكن الواضح أن ولاءه لفرنسا جعله ينقل كل تلك التفاصيل، التي ساعدت كثيرا في إنجاح التوغل العسكري الفرنسي بالمغرب.
كثيرون لعبوا أدوارا اجتماعية بعد تمكن فرنسا من الوصول إلى أغلب المناطق، وتحول دوره الاستكشافي إلى أدوار اجتماعية تقوم على تقديم المساعدات للأهالي، وإتقان اللهجات المحلية التي لم يكن أغلب المغاربة أنفسهم ينطقونها.. وهكذا أصبح بالمغرب نخبة من الفرنسيين المكونين علميا وعسكريا، يعرفون عن المغرب وخصوصياته أكثر مما تعلمه النخبة المغربية في ذلك الوقت. هؤلاء ساهموا في تقوية الوجود الفرنسي بالمغرب، عبر تسهيل ولوج فرنسا إلى أماكن كانت الدولة المغربية تجد صعوبات في السيطرة عليها خلال العقود الأولى من القرن الماضي، ولم يكن سهلا أن يجمع مستكشف أجنبي، دعما كالذي جمعه بول شاتينيير وآخرون ممن زاروا المغرب في نفس الفترة أو ربما بعدها.
يرقد مستكشفون كثيرون في مقابر في عدد من المدن المغربية، وتنقش على قبورهم عبارات كالتالي نقشت على شاهد قبر «ليوطي» نفسه، في محاولة تاريخية لتكريس الدور الذي لعبه هؤلاء المستكشفون في فك العزلة عن مناطق كانت غارقة في الصراعات حول السلطة، فأرسلت لها فرنسا من يدرسها أولا قبل أن تتوغل قواتها داخلها.
الأدوار الاجتماعية التي لعبها هؤلاء، كتوزيع الأدوية والإشراف على تسيير المستشفيات الصغيرة التي لعبت دورا كبيرا في تقديم خدمات طبية للمواطنين قبل حتى أن توجد بالمغرب وزارة للصحة، تجعل منهم في نظر الكثيرين، مناضلين كرسوا حياتهم من أجل القضايا الاجتماعية، لكن الواقع أنهم كانوا موظفين فرنسيين من أجل مهمات عسكرية، بدا واضحا من خلال كتاباتهم أنهم جنحوا فيها للقوات الفرنسية، على حساب النفوذ البريطاني وحتى الألماني الذي كان يسعى قبل 1912 إلى الفوز بحصته من المغرب.