النموذج «الإبراهيمي»
صبحي غندور
المقصود هنا بالنموذج «الإبراهيمي» هو الإشارة إلى النبي إبراهيم (ص)، الذي يعتبره أتباع كل الرسالات السماوية بأنه «جد» الرسل موسى وعيسى ومحمد، عليهم السلام آجمعين، ولا يختلفون عليه أو ينكرون ما توارد في الكتب المقدسة عن سيرة إيمانه وحياته، فهو عمليا الجامع المشترك بينهم، وجميعهم يقر بالخصوصية التي منحها الله تعالى لهذا النبي الكريم.
ولقد جرى في أمكنة وأزمنة عديدة «توظيف» الحديث عن النبي إبراهيم لصالح «أجندات» مختلفة بعضها حسن النية والمقاصد بهدف التقارب بين كل المؤمنين بالله، وبعضها الآخر سعى إلى إضفاء «الشرعية الدينية» على اتفاقات ومعاهدات سياسية جرت بين أطراف عربية وإسرائيل برعاية أمريكية، كالتي حصلت مع مصر، ثم مع «منظمة التحرير الفلسطينية»، حيث كثرت آنذاك الاستشهادات بالنبي إبراهيم والأحاديث عن أهمية «السلام» بين جهات تنتمي دينيا إلى اليهودية والمسيحية والإسلام.
لكن «النموذج الإبراهيمي» الذي أريد التأكيد عليه هنا لا يتصل أبدا في ما سبق ذكره من «توظيف» قام ويقوم به (عن حسن نية) من يريد الوئام والتآلف والتقارب بين الأديان السماوية، أو من يسعى (عن سوء نية) إلى استغلال الدين في أمور سياسية، ولتبرير معاهدات تتعامل أصلا مع قضايا إنسانية ترتبط بعدم شرعية الاحتلال وبحقوق الشعوب المظلومة.
«النموذج الإبراهيمي» هو مطلوب في كيفية عدم جعل الاختلاف بين الطوائف والمذاهب والاجتهادات، سببا للتباعد بين المؤمنين بالله أو للإساءة لبعضهم البعض. فنحن لا نعرف كيف ومتى كان النبي إيراهيم (ص) يصلي ويصوم، وهو الذي جاء قبل ظهور التوارة والإنجيل والقرآن، وقبل تعصب المسلمين لمذاهب واجتهادات فقهية حصلت بعد بدء الدعوة الإسلامية. فالنبي إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، ولا سنيا ولا شيعيا، بل كان مسلما حنيفا بالمعنى الشمولي لكلمة «الإسلام» التي تشمل كل من آمن بالله الخالق عز وجل:
] وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا ممنْ أسْلَمَ وَجْهَهُ لِلـهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتبَعَ ملةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتخَذَ اللـهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا ﴿125﴾ سورة النساء[.
]يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التوْرَاةُ وَالإنجِيلُ إلا مِن بَعْدِهِ أفَلا تَعْقِلُونَ ﴿65﴾ سورة آل عمران[.
]مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيا ولا نَصْرَانِيا وَلَـٰكِن كَانَ حَنِيفًا مسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿67﴾ سورة آل عمران[.
عسى أيضا أن يكون «النموذج الإبراهيمي» حاضرا في سلوك المسلمين، حينما يفقهون معنى الحج إلى مقام النبي إبراهيم في مكة المكرمة. ففي الحج يلتقي، من بقاع الأرض قاطبة، ملايين من البشر. ويتساوى على أرض مكة وفي مناسك الحج: الغني والفقير، الأبيض والأسود والأسمر، الرجال والنساء، والحاكم والمحكوم. وفي الحج أيضا تظهر وحدة الجنس البشري ووحدة الدين الإسلامي، فلا تمييز في الحج ومناسكه بين عربي وأعجمي، ولا بين مسلم من هذا المذهب أو ذاك.
أيضا، هناك حاجة قصوى الآن إلى هذا «النموذج الإبراهيمي» في ما حض عليه القرآن الكريم من استخدام العقل في فهم الأمور، وفي عدم الارتكان فقط إلى ما كان عليه الآباء والأولون. ألم يختلف النبي إبراهيم مع أبيه حول عدم جواز عبادة الأصنام، بعدما آمن النبي نفسه حصيلة منهج عقلاني بدأ في رفض عبادة أصنام صنعها أهل عشيرته، ثم في تساؤله المنطقي عن الشمس والقمر والكواكب، التي أدرك النبي إبراهيم أنها أيضا رغم عظمتها لا يجوز عبادتها:
]وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السمَاوَاتِ وَالأرض وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ﴿75﴾ فَلما جَن عَلَيْهِ الليْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا قَالَ هَـٰذَا رَبي فَلَما أَفَلَ قَالَ لا أُحِب الآفِلِين ﴿76﴾ فَلَما رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَـٰذَا رَبي فَلَما أَفَلَ قَالَ لَئِن لمْ يَهْدِنِي رَبي لأكُونَن مِنَ الْقَوْمِ الضالينَ ﴿77﴾ فَلما رَأَى الشمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـٰذَا رَبي هَـٰذَا أَكْبَرُ فَلَما أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِني بَرِيءٌ مما تُشْرِكُونَ ﴿78﴾ إني وَجهْتُ وَجْهِيَ للذي فَطَرَ السمَاوَاتِ وَالأرض حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿79﴾ سورة الأنعام[.
«النموذج الإبراهيمي» هو مطلوب في استخدام الحجة المنطقية لتأكيد صوابية ما نؤمن به، وليس من خلال أسلوب التكفير والعنف. فقد دعا النبي إبراهيم (ص) أهله وأبناء عشيرته الكفار إلى التخلي عن عبادة الأصنام من خلال أسلوب الحجة المنطقية، حينما حطم ليلا كل أصنامهم، ماعدا كبيرهم لكي يؤكد لهم بطلان ما يعبدون:
]قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَـٰذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيم ﴿62﴾ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَـٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ ﴿63﴾ سورة الأنبياء[.
]أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَاج إِبْرَاهِيمَ فِي رَبهِ أَنْ آتَاهُ اللـهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإن اللـهَ يَأْتِي بِالشمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الذي كَفَرَ وَاللـهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظالِمِينَ ﴿258﴾ سورة البقرة[.
كذلك كانت سيرة خاتم الرسل محمد (صلى الله عليه وسلم)، النبي الأمي الذي تلقى وحي التنزيل لقرآن بليغ، وهو في الأربعين من العمر، فلم تكن دعوته إلى الإيمان والعمل الصالح مقترنة بمعجزات لإقناع الصحابة بما أوحي إليه، بل في نصوص قرآنية هي كلمات الله تعالى التي عجز البشر عن محاكاتها، والتي جاء في حوالي خمسين آية منها ذكر فعل «العقل» ومشتقاته.
فالدعوة للإيمان بالخالق الواحد اقترنت بالمنطق والحجة، ودعت إلى استخدام العقل والتدبر في فهم الخلق، فهكذا كانت السيرة مع جد الأنبياء وهكذا اختتمت مع خاتمهم، عليهم السلام أجمعين.
وفي القرآن الكريم قيمة كبرى للعلم وللعلماء، قل ما تُدرَك. وهي مسألة واضحة في أكثر من آية قرآنية وحديث نبوي شريف. لكن استوقفتني الآيات الكريمة (من الآية 30 إلى الآية 34 من سورة البقرة) التي فيها حوار الله تعالى مع الملائكة حول السجود لآدم، وكيف أن الملائكة خاطبوا الخالق عز وجل بعدما أبلغهم أنه «جاعلٌ في الأرض خليفة»، فقالوا: «أتجعلُ فيها من يُفسدُ فيها ويسفكُ الدماءَ ونحن نسبحُ بحمدٍكَ ونقدسُ لك»، فجاءت الآيات بعد ذلك تتحدث عن الميزة التي جعلها الله تعالى في مخلوقه آدم وتقتضي من الملائكة السجود له، وهي ميزة العلم.