شوف تشوف

القانونية

النظام الصحي العام في زمن كورونا

إن الحديث عن النظام العام الصحي كمفهوم أضحى حديث الساعة أكثر من أي وقت مضى، فذلك يقتضي منا ضرورة تحديد ماهيته، باعتبار أن الصحة العامة أحد مكوناته، بالإضافة إلى السكينة العامة والأمن العام، حيث إن تحديد ماهية النظام العام وما قد يثيره من مشاكل متعددة في الأنظمة القانونية المختلفة، سواء من ناحية الطابع الوطني أو الدولي، ليس بالأمر السهل. إذ إن فكرته ترمي بصفة عامة إلى حماية المجتمع الوطني والأسس الجوهرية التي يقوم عليها، وحماية النظام القانوني الوطني.
وهو مفهوم يتكرر بتداوله باستمرار كونه من الأفكار الأساسية في عالم القانون، وله ارتباط وثيق بدور الدولة ومهامها المنوطة بها، وبما يحقق مصالحها العليا، رغم الاتفاق على صعوبة وتفاوت تعريفه حتى اليوم من خلال النظريات التي تجاذبته بغية الوصول إلى مفهوم متفق عليه، ذلك أن فكرة النظام العام يلفها الكثير من الغموض والصعوبة في التحديد الدقيق لنطاقها، كما أن مضمونها يختلف حسب ظروف كل زمان ومكان، ومن ثم فما يعتبر من النظام العام في بلد ليس كذلك في بلد آخر، وأيضا ما يعد من النظام العام في زمن معين ليس بالضرورة كذلك في زمن آخر، لكن الأكيد أن فكرة النظام العام لها جذورها التاريخية ولم تظهر فجأة، والمؤكد أيضا أنها فكرة غامضة ومرنة يصعب تحديد مضمونها.
حتى الفقه لا يزال يجد صعوبة في تحديد مفهوم النظام العام، وهذا ما عبر عنه بعضهم بقوله: «إن النظام العام يستمد عظمته من ذلك الغموض الذي يحيط به، فمن مظاهر سموه أنه ظل متعاليا على كل الجهود التي بذلها الفقهاء لتعريفه».
ومحاولة لتحديد تعريف النظام العام فيقصد به مجموعة من القواعد القانونية، التي تهدف إلى تحقيق مصلحة عامة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، تتعلق بنظام المجتمع الأعلى، وتعلو على مصلحة الأفراد الذين يجب عليهم جميعا مراعاة هذه المصلحة وتحقيقها، ولا يجوز لهم أن يناهضوها باتفاقات في ما بينهم، حتى وإن حققت هذه الاتفاقات مصالح فردية، لأن المصالح الفردية لا تقوم أمام المصلحة العامة.
وما دامت الصحة العامة أحد مكونات النظام العام، وبذلك يكون أي مساس بالصحة العامة مساس بهذا النظام العام الذي تسعى الدول إلى تحقيقه وإقامته داخل الدولة. وفي خضم ما تشهده المملكة المغربية من جراء فيروس كورونا، وازدياد معدلات المصابين والتخوف من توغل هذا الوباء داخل المجتمع، حيث أصبح تهديدا يمس بالأمن العام الصحي للمواطنين، وما يزيد من خطورة هذا التهديد هو سرعة انتشاره وغياب أي لقاح له لحد الساعة.
وأمام هذا الوضع الاستثنائي الذي لم يعرفه العالم من قبل، وفي غياب تلك الترسانة القانونية الكفيلة بالتعامل مع هذا التطورات الخطيرة لهذا الفيروس، تم اللجوء إلى مجموعة من التدابير والآليات البديلة الأخرى التي تم رصدها من لدن الدولة، بغية الحفاظ على النظام العام برمته، والنظام العام الصحي بالخصوص كونه هو المستهدف بهذا الفيروس، وهي التدابير التي همت مجموعة من المؤسسات والمرافق.
ومن بين أهم الإجراءات والتدابير الاحترازية المتخذة في هذا الشأن، نجد إرجاء وتعليق العمل بمجموعة من المؤسسات والمرافق وكل عمل أو نشاط من شأنه أن يساهم في التكتلات والتجمعات البشرية التي تسهل عملية انتشار الفيروس، وفي هذا الصدد قامت الدولة بوضع تدابير وقتية موجهة إلى بعض الخدمات التي لا تقبل التوقف والتأخير، ونذكر على سبيل المثال القضايا الاستعجالية وقضايا المعتقلين.
وفي السياق نفسه أصدرت النيابة العامة دورية إلى السادة الوكلاء العامين للملك لدى محاكم الاستئناف، ووكلاء الملك لدى المحاكم الابتدائية، والسادة قضاة النيابة العامة المكلفين بالأحداث بجميع محاكم المملكة، والمتعلقة بوضعية الأحداث وخطر تفشي فيروس كورونا بين هذه الفئة التي خصها القانون الوطني والكوني بحماية خاصة، وهي المذكرة التي دعا فيها رئيس النيابة العامة إلى العمل على تسليم الأحداث إلى أسرهم كلما كانت وضعيتهم القانونية ومصلحتهم الفضلى تسمح بذلك؛ نظرا للوضع داخل مراكز الإصلاح والتهذيب، الذي يمكن أن يساهم في انتشار هذا الفيروس.
فضلا عن ذلك نجد أن السياسة الجنائية المتبعة في هذه الظرفية الراهنة، وجهت نحو التقليص ما أمكن من كل التدابير والإجراءات القانونية التي يمكن بأي حال من الأحوال أن تسبب في انتقال وانتشار هذا الوباء، حيث إن النظام العام الصحي أصبح في هرم اهتمامات كل القائمين على العملية القضائية.
دون أن ننسى إنشاء صندوق التضامن ضد فيروس كورونا، الذي أبان عن حجم الحس الوطني المعهود دائما لدى كل مكونات المجتمع المغربي بمختلف مكوناته وانتماءاته، فقد برهن للجميع أنهم كتلة واحدة في مثل هذه المواقف، وآية من آيات تشبث المغاربة بروابط التعاون والتآزر والتضامن في المحن والشدائد، بحيث إن الكل انخرط وساهم وما زال في تعبئة هذا الصندوق الذي ستوجه أمواله إلى مواجهة هذا الفيروس، واستتباب النظام العام الصحي في البلد.
ولا أدل على ذلك قرار إعلان حالة الطوارئ التي تعتبر من التدابير الاستثنائية التاريخية، المتخذة من قبل الدولة من أجل مواجهة هذه الجائحة، مما يؤكد أن النظام العام الصحي هو ركن ركين وبه ينهض النظام العام وتتحقق به عناصره الأخرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى