النبيّ الزائف
ذات يوم كان توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، قد فاجأ العالم، ودوائر اليمين قبل اليسار في الواقع؛ حين كشف النقاب عن هذا التفصيل المثير في سيرته الشخصية: أنّ الكتاب الذي شدّه إلى السياسة، بل دفعه إلى الانخراط المباشر في العمل السياسي، كان سيرة البلشفي الروسيّ الشهير ليون تروتسكي، أي تلك المجلدات الثلاثة التي كتبها المفكر والمؤرّخ البولوني الماركسي إسحق دويتشر، ونقلها كميل قيصر داغر إلى العربية، بهذه العناوين: «النبيّ المسلّح»، «النبيّ الأعزل»، و«النبيّ المنبوذ». مصدر المفاجأة أنّ من يتتلمذ في يفاعته على اقتداء شخصية مثل تروتسكي، ثورية ومتمرّدة ومنشقة وإشكالية، يصعب أن يبلغ النهايات التي بلغتها مسارات بلير: على صعيد ما وصل إليه حزب «العمّال الجديد» من انحطاط سياسي وفكري، في آخر سنوات بلير وبفضل فلسفاته المتأخرة؛ وكذلك على صعيد بريطاني داخليّ صرف، في الاجتماع والاقتصاد والحقوق والحرّيات؛ دون إغفال الصعيد الخارجي، في مسائل الغزو العسكري والتحالف الذيلي شبه المطلق مع الولايات المتحدة.
وإذْ يستخدم المرء مفردة «يصعب»، وليس «يستحيل» مثلاً؛ فلأنّ عشرات الأمثلة تشير إلى طراز مماثل من الانحطاط (يسمّيه أصحابه ارتقاءً!)؛ يقود من معسكر أوّل إلى معسكر آخر نقيض تماماً، وتليق به أحوال العجب والدهشة وضرب الكفّ بالكفّ. وهذا الفتى المنشدّ في سنوات الصبا إلى تروتسكي، هو لاحقاً ـ في خمسينيات عمره، وحين كان يتولى رئاسة الوزارة للمرّة الثالثة ـ حامل الألقاب التالية: «مجرم حرب» حسب المسرحي الكبير الراحل هارولد بنتر، و«الكذّاب» حسب أسبوعية الـ«إيكونوميست» البريطانية، و«المنافق» حسب أهل اليسار في حزبه، و«صوت سيّده» الأمريكي حسب استطلاعات الرأي البريطانية، و«حليف صادق» حسب البيت الأبيض…
قبل التصريح التروتسكي، الثقافي ـ التربوي، كان بلير قد أطلق تصريحاً لا يقلّ دراماتيكية، سياسياً/ روحياً/ دينياً هذه المرّة، قال فيه إنّ الله وحده كان حسيبه في قرار غزو العراق؛ وإنه صارع ضميره طويلاً قبل أن يرسل القوّات البريطانية إلى العراق: «لقد توجّب عليّ اتخاذ ذلك القرار… وفي نهاية المطاف، أعتقد أنّك إذا كنتَ تتحلى بالإيمان في هذه الأمور، فإنك سوف تدرك أنّ الحكم على القرار يصدر عن آخرين». وحين سأله محاوره، مايكل باركنسون، عن قصده من هذه العبارة الملتبسة، أجاب بلير: «إذا كنتَ مؤمناً بالله، فإنّ الحكم لله!».
وبالطبع، كان من حقّ أُسَر الضحايا البريطانيين الذين قضوا في العراق، أو جرّاء غزوه، أن يرفضوا هذا التلفيق الإيماني، فاعتبر ريغ كيز، مؤسس مجموعة «العوائل العسكرية ضدّ الحرب»، أنها تصريحات «مثيرة للاشمئزاز»، وبلير «يستخدم الله ذريعة للتملّص من استراتيجية فشل شاملة». وتساءل الرجل، الذي فقد ابنه في تفجيرات أنفاق لندن: «هل نرى 100 كفن آتية من هناك، لأنّ الله أخبره أن يذهب إلى الحرب؟ الحكم الأوّل يصدره أهالي الضحايا، وليس الله».
من جانبها أعلنت روز جنتل، التي قُتل ابنها في البصرة سنة 2004، أنها «تشعر بالقرف» من تصريحات بلير: «المسيحيّ الحقّ لا يرسل العباد إلى هناك لكي يُقتلوا».
التكسب الفاحش هو الجانب الآخر في شخصية بلير المتأخرة، إذْ قدّرت صحيفة الـ«إندبندنت» أتعابه بمليونَيْ جنيه سنوياً من مصرف بريطاني كبير، ونصف مليون من شركة خدمات مالية سويسرية، وأجور تتراوح بين 50 و170 ألف جنيه لقاء محاضرات متفرقة، إلى جانب أرباح مؤسسة «بلير وشركاه» للاستشارات عبر البحار. وعلى نحو تقريبي، بلغت حصيلة ما جناه الرجل بعد أن ترك المنصب، سنة 2007، قرابة 15 مليون جنيه إسترليني. من جانبها كانت الـ«دايلي تلغراف» قد كشفت النقاب عن وظيفة يتولاها بلير، من خلف الكواليس، لدى شركة أزياء فرنسية كبيرة، يتقاضى عنها مبلغاً خيالياً بستّة أرقام…
وهكذا، ليست مبالغة أن يتخيّل المرء دويتشر وهو يهتزّ في قبره بشدّة، ويحذو حذوه تروتسكي، بغضب أشدّ ربما، إزاء نهايات هذا التلميذ غير النجيب أبداً. وعلى المنوال ذاته، ليست مبالغة أن يهزواّ رؤوسهم ـ إعجاباً، وليس عجباً ـ ساسة أمريكيون سابقون، أمثال جورج بوش الابن وبيل كلينتون؛ وساسة لاحقون، أمثال باراك أوباما وهيلاري كلينتون؛ رأوا في بلير محض مردِّد لأصداء أصواتهم، طائع وطيّع، في مسائل ليست بالغة الحساسية والخطورة فحسب، بل كارثية ومأساوية أيضاً.
وهذه الأيام بالذات، يكتشف الأمريكيون أنّ بلير كان يعلم ـ قبلهم وقبل صحافتهم، بسنوات! ـ بأنّ السيدة كلنتون، على رأس وزارة الخارجية، استخدمت حساباً خاصاً لمراسلاتها الإلكترونية؛ وأنها كلّفت بلير بعدد من «الخدمات» ذات الصلة بوظيفته كموفد لرباعية الشرق الأوسط. وقارئ تلك المراسلات سوف يكتشف، سريعاً، أنّ ذاك الذي تتلمذ على «النبيّ المسلّح»، لم ينقلب إلى نبيّ أعزل ومنبوذ فقط، بل صار كتلة من الكذب والخداع والنفاق والتكسب، تسير على قدمين!