الناتو والتوسع شرقا
فاطمة ياسين
تشكلت نواة حلف شمال الأطلسي (الناتو) باتفاق دونكيرك، الذي عقد بين فرنسا وبريطانيا عام 1947، عقب إسدال الستار على الحرب العالمية الثانية، وكان هدف الحلف دفاعيا للوقوف ضد أي هجوم ألماني أو سوفياتي. وعمليا، كانت ألمانيا تحت الاحتلال وغير قادرة على القيام بأي هجوم، إلى أن تم اقتسامها، فنال السوفيات ربعها، واستقلت ثلاثة أرباعها بوصاية شبه كاملة من الغرب. وفي الواقع، كان السوفيات فقط القادرين على أي هجوم، وهم الخارجون للتو من انتصار ساحق كرس نظريتهم السياسية.
توسع الحلف بضم دول من شمال أمريكا وبعض دول أوروبا الغربية في 1949، وتحت العناوين العسكرية ذاتها التي أعلنها اتفاق دونكيرك. وبعدما سُمح لألمانيا الغربية بالتسلح، تم ضمها إلى الحلف عام 1955، لتنتهي مقولة الخوف من هجوم ألماني، وتصبح الجبهة المفترضة لـ«الناتو» هي الاتحاد السوفياتي، والهدف تطويق دول النظام الشيوعي بالوسائل العسكرية، لمنع تمدد نظريته السياسية ووقف نمو الأحزاب الشيوعية القوية في إيطاليا وفرنسا وتركيا.
بعدما انهارت النظرية الماركسية وتفكك الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو، كان يفترض أن ينكمش «الناتو»، وتتقلص الميزانيات العسكرية للولايات المتحدة التي كانت تقوده، بزوال الخطر المفترض القادم من الشرق، لكن حدث عكس ذلك، فقد تمدد الحلف أكثر نحو الشرق حتى أصبح يحاذي روسيا، وجرى ضم بعض جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق إليه، وبعض عواصم دوله لا تبعد عن موسكو أكثر من المسافة التي يقطعها صاروخ باليستي متوسط المدى. لكن قادة الحلف أبقوا دولا ذات حساسية روسية، كأوكرانيا وجورجيا، خارج الحلف، على الرغم من رغبة هذه الدول في الانضمام إليه، وكانت الأسباب التي سيقت للتريث في ضم هذه الدول تتلخص حول «احترام» المسافة الاستراتيجية الروسية، ويدعي فلاديمير بوتين أن بوريس يلتسين قد تلقى وعدا بعدم توسع الحلف نحو الشرق، فيما تُنكر أمريكا أي وعد من هذا النوع.
ازداد نشاط «الناتو» عقب انهيار النظام الشيوعي، فقام بعمليات عسكرية واسعة النطاق، كانت جميعها موجهة إلى مناطق نفوذ سوفياتية سابقة أو تدور في فلك السوفيات، أو تقع على مقربة من حدودهم، أولى العمليات كانت عاصفة الصحراء لتحرير الكويت من الغزو العراقي، حين هاجمت الولايات المتحدة القوات العراقية في الكويت، فيما كان الاتحاد السوفياتي يغرق، ويتخلى عن جمهورياته الواحدة تلو الأخرى. بعد عام، تدخل «الناتو» في منطقة البلقان إثر تفكك يوغوسلافيا، وفرض منطقة حظر طيران فوق البوسنة والهرسك، ثم نفذ عمليات قصف جوي على صربيا بعد ثلاث سنوات. وتدخل عام 1999 في كوسوفو بعملية، واستمر القصف من الجو ضد القوات والمنشآت اليوغوسلافية 78 يوما، بالإضافة إلى جهوده المبذولة في احتلال كل من كابول وبغداد. وفي 2011، تدخل «الناتو» للمساعدة في إسقاط نظام معمر القذافي في ليبيا.
يصارع بوتين الآن، وعلى حدود بلاده مباشرة، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، فهو يكاد يخسر الجبهة الشرقية بالكامل، بعدما وُضعت أوكرانيا عضوا مفضلا ومرشحا للدخول في حلف الناتو، وهو يحشد قواته في محاولة لابتزاز الغرب ليتخلوا له عن قطاع صغير منها، فيحتفظ بماء الوجه، ويستعد لمعركة قد تكون وشيكة في بيلاروسيا، وهي آخر القلاع الشرقية أمام الحلف، ويبدو أن مصيرا ينتظرها كمصير أوكرانيا.