الموت لماذا ؟؟
بينت الباحثة (إليزابيث كوبلر روس) في دراسة لمئات من المرضى المسنين على فراش الموت، انزلاقهم النفسي تجاه حلقة الموت التي تحكم قبضتها عليهم بالتدريج، في خمسة حقول نفسية، تبدأ برفض الاعتراف بالحقيقة المزلزلة أنه في اتجاهه إلى الفناء النهائي، وتلاشي الشخصية وفساد البدن (الإنكار والعزلة) لتتطور بعد ذلك إلى الغضب وعدم الشعور بالعدالة، فلماذا تم اختياره هو بالذات؟ (حالة الغضب والسخط) فإذا تيقن أن لا وزر، بدأ مرحلة المساومة عسى أن يتحرر من القبضة الرهيبة للموت (مرحلة المساومة) لينهار بعدها في اتجاه الاكتئاب كمحاولة للتعبير عن الحزن والأسى للنفس (مرحلة الاكتئاب) ليختم النهاية بالاستسلام والقنوط وتنحية الأمل، عندما يشعر أن لا فائدة من أي مقاومة، فيتقبل حقيقة الموت بشكل هادئ، والتقبل الهادئ لا يعني السعادة بالموت، ولكنه يعني بكل بساطة أن لا فائدة من المقاومة، وأن الوقت آتٍ للراحة الدائمة (الإنسان وعلم النفس ـ تأليف الدكتور عبد الستار إبراهيم ـ سلسلة عالم المعرفة ـ رقم 86 ـ ص 160 ـ 161) ولكن في ظلمات الاندثار يبرز الدين كأكبر عزاء، وفي حديث موسى عليه السلام انعتاق ضخم من الاكتئاب والتمرد والحزن، والاستسلام بحب للإرادة الإلهية تجاه هذا التحدي الكوني، وتلمع أسماء فلاسفة في هذا السجل، على نفس الاتجاه القرآني الذي يبني الإيمان على رفض القنوط وتنحية اليأس الوجودي (ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالين)، (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون). (سورتا الحجر ويوسف على التوالي).
رأي الفيلسوف الرواقي (أبكتيتوس)
ذهب أبكتيتوس إلى أنه ليس هناك شر في الكون (كما أن العلامة لا تقاوم لكي نضل الطريق إليها ، فكذلك ليس هناك شيء شرير بذاته في العالم. هات ما تشاء وسأحوله إلى خير: المرض، الموت، العوز، اللوم، الكدح من أجل الحياة.. وستتحول تلك الأمور جميعاً بإشارة من عصا هرمز إلى مزايا (حسب الأساطير اليونانية هرمز هو ابن زيوس وهو إله التجارة والحظ والمسابقات الرياضية ورسول الآلهة ومرافق الأرواح إلى عالم الموتى) (الموت في الفكر الغربي ـ تأليف جاك شورون ـ ترجمة كامل يوسف حسين ـ مراجعة وتقديم الدكتور إمام عبد الفتاح إمام ـ سلسلة عالم المعرفة رقم 76 ـ ص 78).
ما الذي ستصنع من الموت؟ أي شيء غير حلية تزدان بها، أي شيء غير إظهارك من خلال الفعل الذي يتبع إرادة الطبيعة. إن الأشياء كافة تخدم قانون الكون وتذعن له، وجسمنا بالمثل يذعن كذلك للقانون نفسه في حالات المرض والعافية والشباب والشيخوخة، وفي غمار مروره بكل التغيرات الأخرى المعلنة، ومن ثم فإنه من المعقول ألا يكون ما يعتمد على ذواتنا، أي فهمنا الخاص هو المتمرد الوحيد، ذلك أن الكون قوي ومتميز ويقدم لنا الأفضل من خلال حكمه لنا في اتحاد مع الكل، أضف إلى ذلك أن المعارضة فضلاً عن كونها غير معقولة ولا تقدم شيئاً إلا صراعاً لا طائل وراءه يلقي بنا في غمار الألم والحزن).
ويجعل أبكتيتوس المسألة ليست في تحقيق اللامبالاة بل توليد روح الهدوء والسكينة الداخليتين (ويمكن تحقيق هذا الهدوء وتلك السكينة من خلال الاستخدام الصحيح للانطباعات، الأمر الذي يتضمن تمييزاً دقيقاً بين الأمور الواقعة في نطاق قدرتنا وتلك التي لا تقع في هذا النطاق، وتلك مهمة الفلسفة التي تغدو مجردة من القيمة إذا ما كانت تأملاً نظرياً محضاً، منبت الصلة وغير قابل للتطبيق على شؤون الحياة) (نفس المصدر السابق ص 77) .
ويبدو أن خوف الإنسان من الموت هو أشد من ظاهرة الموت بحد ذاتها حسب أبكتيتوس (ليس الموت شيئاً مفزعاً وإلا لبدا كذلك لسقراط، لكن الفزع يكمن في مفهومنا عن الموت، أي أن هذا المفهوم هو المفزع، فليس الموت أو الألم هو الشيء المخيف وإنما خشية الألم أو الموت).
ولكن هل يجدي الفرار من الموت شيئاً (أسألكم أين يمكنني الهرب من الموت؟ حددوا لي المكان؟ أشيروا إلى الناس الذين يتعين أن أمضي بينهم، والذين لا ينقض عليهم الموت؟! حددوا لي رقية تحجبه؟ إذا لم يكن لدي شيء من هذا فما الذي تريدون مني أن أصنعه؟ ليس بمقدوري الهرب من الموت: ألا ألوذ بالهرب من خشيته؟ أتراني أموت في خوف وقد أخذتني الرعدة).
وينظر إلى الحياة أنها هبة من الله ودورنا في هذه الحياة لا يتجاوز الممثلين في المسرح، وعندما تنتهي أدوارنا يجب أن نودع شاكرين الله الجليل الذي منحنا فرصة الوجود كما ينصرف المدعوون عند انتهاء المأدبة (إن على المرء أن يفكر في الحياة باعتبارها شيئاً أعارنا الله إياه للاستخدام المؤقت فحسب، وهي تشبه في هذا مأدبة يحتل المرء فيها مكانه المتواضع، وحينما يقبل الموت فإن علينا أن نسلم أنفسنا لقدرنا وأن نقوم حتى النهاية بالدور الذي عهد الله لنا به كأفضل ما نستطيع، علينا أن نغادر مأدبة الحياة في هدوء ولباقة معربين عن شكرنا لله لدعوته لنا للمشاركة فيها والإعجاب بأعماله) (نفس المصدر السابق ص 79).
ولكن متى نشعر بالحزن في الموت تماماً؟
نظرية لاندسبيرج وقصة جلجميش
إن الوعي بضرورة الموت لا يستيقظ إلا من خلال المشاركة، ومن خلال الحب الشخصي الذي تصطبغ به هذه التجربة تماماً، لقد شكلناه (نحن) ذاتاً مشتركة مع الشخص المحتضر، ومن خلال تلك (الذات المشتركة) ومن خلال القوة النوعية الخاصة لهذا الكيان الجديد والشخصي تماماً نسير نحو الوعي الحي بأننا لابد أن نموت. ولقد تم اكتشاف حتمية الموت في أقدم الوثائق المعروفة لنا حول الموت من خلال مثل هذه المشاركة في موت صديق نحبه في ملحمة جلجميش (جلجميش ملك أوروك كان طاغياً أسرف على الناس بقسوته حتى دعا الناس الآلهة لإنقاذهم فأرسلت الآلهة أنكيدو الذي صارعه بشدة ثم تحولا إلى صديقين، ثم غضبت الآلهة على أنكيدو فحكمته بالموت وعندما رأى جلجميش صديقه يذوب في الموت بكاه بحرقة لأنه أدرك وعي الموت تماماً مع موت صديقه).
إلى أين مضيتم أيها الأموات؟ إلى أين يا صديقي أبو طه؟ إلى أين يا ليلى سعيد توأم روحي؟؟
في هدوء مقبرة صغيرة في حي الميدان في دمشق وقعت عيني على أبيات قصيرة من الشعر:
دفن الجسم بالثرى
ليس بالجسم منتفع
إنما النــــــفع بالذي
كان بالجسم وارتفع
أصله جوهر نفيــس
وإلى أصله قد رجـع
الحياة أقوى من الموت، والحياة أصل الوجود لأنها تتغذى من الحي الذي لا يموت، وتتوكل على الحي الذي لا يموت. والحياة تتدفق وتستمر في أشكال لا نهائية، سواء أدركناها أو غابت عنا فهي تعمل وفق قانونها الخاص.