الملك محمد السادس يتنبأ بانهيار النظام الاقتصادي العالمي وتهاوي القواعد النقدية قبل 22 عاما من الأزمة المالية
عزيز الحور
تفتح وعي ولي العهد الذي صار سنوات في ما بعد الملك محمد السادس، في ظل تحولات سياسية عالمية متسارعة. وخلال مرحلة دراسته الثانوية الجامعية كانت هناك عدة نظريات سياسية تظهر على السطح، بفعل التفاعل السياسي الكبير في تلك الفترة. فسبعينات وثمانينات القرن الماضي شهدت أوج المواجهة الباردة بين الكتلتين الشرقية والغربية، بعد خروج عسير من الحرب العالمية الثانية ومحاولة أقطاب فرض قيادتها للعالم، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، بنمط سياستها الليبرالية واقتصادها الرأسمالي، والاتحاد السوفياتي بنموذجه الاشتراكي واقتصاده الشيوعي.
وفي ظل هذه التقاطبات الكبرى، كانت تحدث تجاذبات ذات أبعاد إقليمية وقومية داخل الدول الخارجة للتو من الاستعمار، والتي ما زالت في مخاض البحث عن هويتها السياسية والاقتصادية وحتى الإيديولوجية. وقد كان العالم العربي والمغرب وسطه في خضم هذه التجاذبات التي أنتجت أفكارا سياسية مختلفة يتنازعها الفكر العربي القومي والإسلام السياسي والتوجه المحافظ.
وفي سياق كل هذا التفاعل، بدأت مفاهيم جديدة تظهر على مستوى السياسة الدولية، خصوصا في الجانب الاقتصادي، ما دامت اقتصادات جل دول العالم ما زالت تتشكل في تلك الفترة، بدءا باقتصادات الدول الأوربية الخارجة من حرب عالمية مدمرة وبقية الدول الثالثية التي كان اقتصادها خاضعا لسنوات للسيطرة الاستعمارية. ولذلك فقد اختارت هاته الاقتصادات الجديدة أن تبحث عن ذاتها خارج تأثير القوى الكبرى، أي بعيدا عن القطبين الشرقي والغربي، في إطار عدم الانحياز.
بين المفاهيم الجديدة البارزة، إذن، مفهوم النظام الاقتصادي العالمي الجديد، وهو مفهوم تبلور في السياق المذكور قبل أن يتوارى في صيغته المطروحة حينها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وسيطرة المنظومة الليبرالية مستقوية بمفهوم طارئ هو العولمة.
في هذا الجزء من البحث، سيفرد الملك حيزا كاملا لفحص هذا المفهوم على ضوء توجه الاتحاد العربي الإفريقي لإقرار هذا النظام الجديد، وهو توجه اعتبر بمثابة هدف من أهداف الاتحاد الناشئ بين المغرب وليبيا على المستوى العالمي بعد هدفي الانتصار لقضايا إفريقيا وانتهاج سياسة عدم الانحياز.
يقول الملك في هذا الصدد: «بصرف النظر عن الاختلاف الموجود حول نقطة البداية في المطالبة بإقامة نظام عالمي جديد، فإن هذه المطالبة لم تطرح بصورة جدية إلا في أوائل السبعينات، ويعتبر مؤتمر القمة الرابع لدول عدم الانحياز في الجزائر سنة 1973 أول مؤتمر طرح فكرة ضرورة إقامة هذا النظام، بعد أن تأكدت بلدان عدم الانحياز من أن النظام الاقتصادي الدولي غير قابل للتطور لأنه يقوم على أسس جائرة، وأن على هذه البلدان أن تخوض نضالا اقتصاديا على غرار نضالها السياسي. واعتبارا من منتصف 1973 وحتى نهاية 1974، عرفت الدول الغربية أزمة اقتصادية خانقة نتيجة التضخم من جهة، واستخدام سلاح البترول عن طريق رفع أسعار النفط الخام من جهة أخرى. ومن هنا بدأت المواجهة الحقيقية بين دول الجنوب ودول الشمال حول أسعار المواد الأولية، ما دفع الأمم المتحدة إلى عقد دورة استثنائية في أبريل 1974، انتهت بالتوصل إلى إقرار وثيقتين هامتين هما: «إعلان خاص بإقامة نظام اقتصادي دولي جديد صدر بشأنه القرار رقم 3201، وإعلان برنامج عمل من أجل إقامة نظام اقتصادي دولي جديد صدر بشأنه القرار 3202».
وفي إطار متابعته لكرونولوجيا فكرة النظام الاقتصادي العالمي الجديد، يوضح الملك في بحثه: «وقد بدأ الإعلان الأول بتأكيد التصميم على العمل الموحد من أجل إقامة نظام اقتصادي دولي مبني على الإنصاف وتساوي جميع الدول في السيادة وعلى ترابطها واشتراك مصالحها وتعاونها، بصرف النظر عن نظمها الاقتصادية والاجتماعية، ويكون من شأن هذا النظام تصحيح فروق الدول المتقدمة والدول النامية كضمان للتنمية الاقتصادية والاجتماعية السريعة والمستمرة للأجيال الحاضرة والمقبلة. وقد أشارت مواد هذا الإعلان إلى أسباب قيام النظام الاقتصادي الدولي الجديد وبروز دور الدول النامية في المجال الدولي، كما يشير إلى أن التطورات الاقتصادية والسياسية تقتضي ضرورة مشاركة الدول النامية مشاركة إيجابية وكاملة ومتكافئة في الدول المتقدمة مرتبط بنمو وتقدم الدول النامية كما ظهر من خلال أزمة الطاقة. وقد حدد هذا الإعلان أيضا بعض المبادئ الهامة التي يجب أن يقوم عليها هذا النظام، وهي المساواة في السيادة بين الدول، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، ورفض الاستيلاء على الأراضي بالقوة، وحق كل دولة في تبني النظام الاقتصادي والاجتماعي الذي تعتد أنه في مصلحة تنميتها، والسيادة الدائمة والكاملة لكل الدول على ثرواتها ومواردها الطبيعية وكل مظاهر النشاط الاقتصادي، بما في ذلك حق الدول في التأميم ووضع القواعد التي تحكم نشاط الشركات المتعدة الجنسيات، وإقامة علاقة عادلة بين أسعار المواد الأولية والمنتجات الصناعية وتوفير الظروف الملائمة لانتقال الموارد المالية والتكنولوجية إلى الدول النامية، وتشجيع قيام اتحاد منتجي الدول النامية».
مسلسل الدفع باتجاه إقرار نظام اقتصادي عالمي، تحت مظلة الأمم المتحدة، انتهى بإقرار برنامج عمل قام على أساس حل مشاكل وتحديات مرتبطة أساسا بالدول النامية، كما بدأت تسمى في إطار هذه الأدبيات الجديدة التي كان ضمنها مفهوم الحوار شمال- جنوب. يقول الملك: «هذه المسائل كانت هي الموضوع الأساسي لما سمي بالحوار بين الشمال والجنوب، وحظيت باهتمام المؤتمرات الاقتصادية سواء على صعيد الأمم المتحدة أو على صعيد الدول الصناعية أو على صعيد دول الجنوب ذاتها، ولكنه يلاحظ أن دول الجنوب رغم اتفاقها على ضرورة إقامة نظام اقتصادي عالمي جديد، فإن الخلافات سرعان ما تثور بينها عندما يتعلق الأمر ببحث التفاصيل المتعلقة بهذا النظام، وذلك بسبب انقسامها إلى عدة مجموعات: المجموعة النفطية، والمجموعة الأكثر فقرا، والمجموعة الوسيطة بينهما». لكن ما كان موقع الاتحاد المغربي- الليبي ضمن هذا النظام الجديد الذي نُظر إليه على الأقل كما ظهر في وثائق الاتحاد وتوجيهات كل من الحسن الثاني والقذافي؟
يوضح الملك هذا الأمر بالقول: «وفي ضوء هذه المعطيات يجب تسجيل حقيقتين تتعلقان بأطراف الاتحاد العربي- الإفريقي، أولاهما أن الدولتين كانتا دائما من الدول الأكثر حماسة ودفاعا عن فكرة إقامة نظام اقتصادي دولي جديد وعادل، وثانيهما أن هذا الاتحاد ذاته هو محاولة للتضامن بين دولتين من دول الجنوب. إن البلدين متفقان على أن النظام الاقتصادي الدولي لا يمكن إصلاحه إلا بإعادة هيكلته بحيث يتماشى ومعطيات الظروف الاقتصادية والسياسية الدولية الراهنة، ويأخذ في الاعتبار مصالح الدول النامية التي كان معظمها تحت السيطرة الأجنبية عند وضع أسس النظام الحالي. ولذلك فإنه يمكنهما العمل في إطار الاتحاد العربي- الإفريقي على تطوير مواقف الشمال للتوصل إلى إرساء نظام اقتصادي عالمي جديد وعادل يأخذ المصالح الحيوية في البلاد النامية بعين الاعتبار. ولا شك في أن إصلاح النظام النقدي العالمي يعتبر مطلبا أساسيا وملحا للدولتين باعتبار أنه أصبح لا يتماشى وطموحات الدول النامية والمعطيات السياسية والاقتصادية الجديدة، خاصة وأن كل محاولات إصلاحه قد فشلت لأنها تمت تحت مؤسسة ما زالت تهيمن عليها مجموعة من الدول المتقدمة، وأن هذه الإصلاحات ما زالت تناقش في غياب الدول النامية دون أن يكون لها دور يذكر في هذا الميدان، ولذلك فإن إصلاح النظام النقدي العالمي يجب أن يبحث ضمن مفاوضات شاملة تضمن عالمية التمثيل بحيث تسمع جميع الأصوات وتؤخذ في الاعتبار كل وجهات النظر».
في سياق توضيح الملك لهذه الحيثيات، يعرض، ضمنيا، نبوءة تحققت في ما بعد، تفيد بانهيار النظام الاقتصادي العالمي وتهاوي القواعد النقدية والمالية التي يقوم عليها، وهو ما تحقق فعلا سنة 2007، أي بعد 22 عاما من تحرير البحث، إثر الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية.
فضلا عن تغييب الدول النامية عن تقرير مصير الاقتصاد العالمي، اعتبر الملك أن مشكلا آخر تعانيه دول العالم الثالث وقد يؤدي إلى انهيار النظام الاقتصادي العالمي الحالي وتقويض القواعد النقدية والمالية التي يسير عليها، وهو مشكل المديونية الذي يعتبر الملك في بحثه أن حله يكمن في تمكين الدول النامية من الاستفادة من حصصها الفعلية في المبادلات الدولية وإزالة العراقيل التي تواجه صادراتها، وفي مقدمتها سياسة الحماية الجمركية، وكل ذلك في ظل «تعديل الوضع القائم في العلاقات الدولية الاقتصادية التي أرسيت قواعدها في الحقبة الاستعمارية».